بعد التحية والتقدير، تستحقون هذا الخطاب لأنكم وجهاء الناس وأعلامهم وملح أرضهم، وأنتم أكثر الناس إدراكاً للخطر الذي يحدق بنا، وسوء الحال والمآل الذي يهددنا، سائلين الله تعالى أن يرفع عنا وعن المسلمين جميعا المصائب والفتن ما ظهر منها وما بطن.
كما تعلمون فإن الله تعالى قد أمرنا في آيتين فقط بستة أوامر في سبع نقاط في سورة الحجرات عند اقتتال المسلمين كما في الآيتين 9-10 منها، فهي أحكام وأوامر واضحة ليس فيها غشاوة.
قال تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ فقد أمر تعالى في الآيتين بالآتي:
1- ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ وهو هدف سامٍ يعصم الدماء والأرواح الحرام ويوقف القتال بين المسلمين، فقد جاءت آيات القرآن تؤكد أن القتال بين المسلمين ليس طبيعيا، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً﴾، بل هو محرم مذموم، قال النبي ﷺ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
2- يقول الله تعالى: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله﴾. والقتال في هذه الحالة بعد تحرك المسلمين للإصلاح ومقابلة الطرفين، والسماع منهما، والحث على الصلح، فإن رفض طرف وأبى إلا القتال والبغي، وجب قتاله قتال تأديب ورده إلى جادة الحق. فليس هنا فرصة لتدخل الدول الاستعمارية ولا منظماتها مثل الأمم المتحدة وغيرها في هذا الشأن الذي جعله خالصا للمسلمين.
3- قال تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾: فإذا استجابت الفئة الباغية بعد قتالها واستسلمت، ورجعت إلى الحق فلا يجوز قتالها، ولا أسر رجالها، ولا الإجهاز على جريحها، ولا سلب أموالها. وإن اعتدت على حقوق للناس انتزعت منها.
جاء في تفسير (الجامع لأحكام القرآن) للإمام القرطبي في تفسير الآية، قال ابن عمر: قال النبي ﷺ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَدْرِي كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟» قال: الله ورسوله أعلم. فقال: «لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُها وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهَا».
4- قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا﴾: جاء في تفسير السعدي رحمه الله: هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح، قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل، ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
5- قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ثم لفت الله تعالى نظر المؤمنين عند الصلح أو القتال لينتبهوا إلى رباط الإيمان والإسلام وأخوة الدين والعقيدة. أورد القرطبي: "قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب".
6- ﴿إنما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم﴾: تكرر الأمر ﴿فَأَصْلِحُوا﴾ للمرة الثالثة على التوالي في آيتين فقط، ما يزيد التأكيد والتشديد على أن الله تعالى لا يرضى قتال المسلم للمسلم وأنه لا بد من تدخل المسلمين للإصلاح وإيقاف إراقة الدم الحرام.
7- ﴿وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: فقد أمر الله تعالى المسلمين بالتقوى وامتثال أوامره عند اقتتال المسلمين فلا ينحازوا ولا يؤججوا الصراع لأغراض ومآرب أنانية دنيوية، جاء في تفسير جامع البيان، للإمام الطبري: "يقول تعالى ذكره: وخافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل".
أخيرا: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: فإن نتيجة هذا الجهد للإصلاح هو نزول الرحمة والبركة وبسط الأمن والاستقرار وصرف الضائقات والمصائب والبلاء والغلاء والفتن والمحن عن المسلمين. يقول الإمام السعدي في تفسير ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: "إذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك، على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين، من أعظم حواجب الرحمة".
أيها العلماء والأئمة ووجهاء الناس وقياداتهم: لنا دور كبير نحن المسلمين في تحقيق هذه الأوامر الربانية ابتغاء وجه الله تعالى ونوالا لرضوانه سبحانه، دون ميول عنصرية ولا تصفية حسابات سياسية.
لقد عُرض هذا الخطاب على عدد كبير من الأئمة والوجهاء في الأحياء فاستبشروا به خيرا.
صحيح أن هناك من يرى عدم الصلح لتصفية حسابات قبلية أو سياسية، فيرى إطالة أمد الحرب بألفاظ لا تليق بالمسلم المنضبط بشرع ربه مثل (بلوهم) (أبيدوهم)...إلخ، وهناك من يرى أن من اعتدى على الناس وأموالهم وأعراضهم لا يجوز الصلح معه فيقول: "لن نوقف الحرب حتى نقضي عليهم".
مع العلم أن حرب دارفور مستمرة لنحو عشرين عاما وما زالت الحركات في دارفور بجنودها وأسلحتها ومنهم من ينادي بالانفصال وتمزيق جديد لجسد البلاد كما حصل في انفصال الجنوب، فمن المستفيد من استمرار القتال؟!
والأخطر من ذلك هو تدخل الدول الاستعمارية وسفاراتها ومنظماتها لتتكسب من هذا القتال واستغلاله لتنفيذ أجندتها لتصنع الهدن تلو الهدن، وتخرج رعاياها سالمين من الحرب وآثارها. وفينا من يرى استمرار القتال وتعطيل أحكام حرمة القتال بين المسلمين غير آبه بالآثار الكارثية للحرب على الدماء والأرواح والأعراض والأموال.
أغلب من ينادون بالحرب لم يلتزموا بنص الآية التي كررت الدعوة إلى الصلح والقسط والعدل والتشديد على أخوة الإيمان، ثم إذا رفضت إحدى الفئتين الصلح وجب قتالها بعد الحرب. أما اليوم فإنهم ينفخون في نار الحرب التي سيطفئها الله سبحانه طال الزمان أو قصر، قال تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾. للأسف من الداعين لاستمرار الحرب أصحاب منصات خارجية تتكسب من الحرب، منها قنوات فضائية، وصفحات في وسائط التواصل الإلكتروني، وغيرها، فوجب فضحهم وكشف مخططهم.
لا يعني إيقاف الحرب الدعوة إلى العلمانية أو الدولة المدنية الديمقراطية شريعة المستعمر ونظامه، فالمسلم لا يتلاعب بالأحكام الشرعية ليوقف الحرب بها وعندما تتوقف الحرب يسعى لتطبيق غيرها.
إن الواجب على المسلمين حسب النصوص الشرعية أن يجمعوا كلمة المسلمين ويوحدوا طاقتهم ويحلوا مشاكلهم بالإسلام فقط دون تدخل من أعدائهم المتربصين بهم، فينظموا صفوفهم ويطبقوا شرع ربهم بدولة تخلف النبي ﷺ في إقامة الدين وسياسة الدنيا، فالإسلام ليس كهنوتا وإنما له دولة سماها النبي الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، يبايع فيها الحاكم لإقامة الدين والشرع. ولقد جاء النص الشرعي واضحا أن الذي يموت ولا يبايع خليفة يقيم الدين ويطبق الشرع فإنه آثم كما قال النبي ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
ختاما: إن للالتزام بشرع الله تعالى ثمرات وبشريات؛ فبه يتحقق العدل ويبسط الأمن، وبه يمنع المسلمون عدوهم من التدخل في شؤونهم كما يحدث اليوم.
فالإسلام نظام كامل شامل، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾. فبشرع الله وحده تعالج المشاكل ويعم الخير والرخاء؛ لذا وجب الرجوع إليه والاحتكام له وحل المشاكل به. قال تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾.
مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع