"قبل 56 عاما خلال حرب الأيام الستة وحدنا القدس، لكنني مضطر للقول إن المعركة على توحيدها لم تكتمل لأنني وزملائي مضطرون مرة تلو الأخرى إلى صد الضغوطات الدولية من أولئك الذين يريدون إعادة تقسيم القدس، وأيضاً من رؤساء حكومات في (إسرائيل) كانوا مستعدين للاستسلام لهذه الضغوط لدرجة أنهم كانوا مستعدين للتنازل عن الأماكن الأكثر قدسية لليهود"، هكذا عبر رئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو عن المعنى السياسي لاجتماع حكومته داخل نفق تحت المسجد الأقصى، وفي المقابل عبرت الجامعة العربية عن موقفها إزاء التصعيد الأخير في القدس وخاصة مسيرة الأعلام بالقول في قمة جدة "نجدد التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية عربياً، وعلى المبادرة العربية كسبيل لحلها، وعلى أهمية تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية عادلة للقضية".
لقد اختار نتنياهو كلماته بعناية كما اختار التوقيت والموقع بعناية، وأراد الدمج بين التصريحات والمكان والزمان لتكون الرسالة واضحة وصريحة بمضمونها السياسي والمراد منها، وهذا يَظهر في التعبير المقتضب والمركز في خطابه على أن القدس أخذت بالقوة العسكرية وأنها تمثل عاصمة كيانه بشطريها الشرقي والغربي، وأنه لم ولن يستسلم للضغوطات الدولية الرامية لتسليم الجزء الشرقي منها لإقامة الدولة الفلسطينية وفق مشروع الدولتين، وأن قادة يهود الذين كان عندهم استعداد للقبول بحل الدولتين أصبحوا من الماضي، وهذا الموقف منسجم تماماً مع حالة التصعيد التي تشهدها الأرض المباركة ومدينة القدس، والتغير العلني في موقف كيان يهود وإزالته لكل الحواجز أمام الأحزاب الدينية والقومية لتنطلق بمسيراتها وشعاراتها وهتافاتها المطالبة بتقسيم الأقصى وقتل العرب وتهجيرهم وتهويد القدس وبناء الهيكل، وهذا التوجه وإن كان يستثمره نتنياهو في إبقاء التحالف الحاكم المستند لتلك الأحزاب القومية الدينية إلا أنه أيضاً يمثل موقف نتنياهو وأحزاب اليمين والشارع في كيان يهود، وهو يشكل خطراً حقيقياً على القدس وأهل فلسطين والمقدسات.
وفي خضم كل ذلك كانت بعض الأنظار التائهة تتجه إلى الموقف العربي الرسمي في قمة جدة التي جاءت بعد مسيرة الأعلام وسبقت خطاب نتنياهو الأخير، ومدى تأثير هذا الموقف على مجريات الأحداث؟ ولماذا بقي بمستواه المنبطح المعهود والقائم على مشروع الدولتين دون أدنى تغير سياسي يقابل التغيرات والوقائع التي يفرضها كيان يهود على الأرض؟ وهذا ما سوف نحاول توضيحه في هذه المقالة بشكل موضوعي من خلال تبيان حقيقة الجامعة العربية ومدى تأثيرها على قضية فلسطين وعلى كيان يهود.
إن النظر إلى الواقع السياسي لجامعة الدول العربية يظهر أن موقفها لم يكن مستغربا، فهي لا تمثل دولاً مستقلة في سياستها الخارجية وإنما تمثل مجموعة من الدول العميلة سياسياً تشكل فيما بينها إطاراً سياسياً للتأثير في بعض الملفات وفق أجندات الدولة الكبرى التي تسيطر على الأنظمة الوازنة في الجامعة مثل مصر والنظام السعودي. وقد كانت عند إنشائها عام 1945م أداة في يد بريطانيا التي هندست إنشاءها وجعلتها ثمرة معركة إعلامية وفكرية حادة وطويلة نشبت بين التيارات القومية والإسلامية بعد هدم دولة الخلافة، فبينما كانت تلك التيارات تتحسس طريق النهضة اختارت لها بريطانيا هذا الطُعم الاستعمار؛ من هو الأفضل للتعبير عن كينونة الأمة الإسلامية الجامعة الإسلامية أم الجامعة العربية؟! وكان الهدف من ذلك إبعاد الأنظار عن الحل المبدئي الذي عليه تكون النهضة الصحيحة وهو إقامة دولة الخلافة التي هدمت لتعيد تطبيق الإسلام وحمله للعالم. وقد احتفت الحكومة البريطانية بإنشاء جامعة الدول العربية على لسان وزير خارجيتها آنذاك أنتوني أيدن، وأصبحت الجامعة العربية مؤسسة سياسية لها تأثير متفاوت على الملفات السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة ووزنها السياسي يتأثر بطبيعة الملف الذي تتناوله الجامعة.
وقد استخدمت بريطانيا الجامعة العربية لتنفيذ مخططاتها المتعلقة بفلسطين، حيث جعلت فلسطين جزءاً من الجامعة العربية عام 1945، وكانت حينها ما تزال تحت الانتداب البريطاني أي قبل عام 1948، وكانت بريطانيا تضع ضمن حساباتها السياسية أن تستبدل بالانتداب دولة علمانية على فلسطين تشمل اليهود والمسلمين وتكون تحت سيطرة يهود وبإشراك بعض الوزراء العرب في إدارتها وتكون عضواً في الجامعة العربية، ولكن الحسابات البريطانية تبعثرت ومشروعها تعطل، ومن ثم جاء الدور الأمريكي في توظيف الجامعة العربية لتنفيذ مشروع الدولتين، وقد كانت لها محاولات جادة منها اجتماع شتورا في لبنان عام 1960، ولكن رئيس الوزراء الأردني المجالي اغتاله رجل بريطانيا الملك حسين، ومن ثم كانت قمة القاهرة التي تم فيها إعلان إنشاء منظمة التحرير عام 1964، ومن ثم اعتبارها الممثل الوحيد والشرعي في قمة الرباط عام 1974، ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم كل تحركات ولقاءات وبيانات الجامعة العربية تدور حول تمكين منظمة التحرير من إقامة الدولة الفلسطينية على المحتل عام 1967، وهي ثابتة لا تتغير بينما تتغير الحقائق والوقائع على الأرض!
وحتى يبقى لجامعة الدول العربية وزن في الضغط على كيان يهود للقبول بمشروع الدولتين كانت أمريكا توجه الجامعة إلى ربط اتفاقيات التطبيع بين أعضائها وكيان يهود بإقامة دولة فلسطينية على المحتل عام 1967م، وهو ما تم التأكيد عليه في قمة بيروت عام 2002 وعرف بمبادرة السلام العربية ومبدأ الأرض مقابل السلام، ولكن التغيرات السياسية الدولية والإقليمية وتعامل أمريكا معها ومع التطورات الداخلية في أمريكا جعلت إدارة ترامب تسحب هذه الورقة من حكام العرب، وأصبح المبدأ القائم هو السلام مقابل السلام، وانطلق قطار التطبيع من البحرين حتى وصل السودان والمغرب، وهذا جعل تأثير الجامعة العربية على كيان يهود يقارب الصفر.
وفي الختام: إن كيان يهود ذاهب إلى مزيد من البطش بأهل فلسطين والتهويد للأرض المباركة والعربدة في المنطقة ولن توقفه جامعة الدول العربية وقممها الشكلية، وإنما فقط تحرك سياسي واعٍ يفضي إلى تغير سياسي إقليمي بإسقاط الأنظمة العميلة في بلاد المسلمين أو نظام منها، ومن ثم التحرك العسكري لتحرير فلسطين، وهذا كفيل بتفجير طاقات أمة الإسلام كاملة وإحداث تغير يتجاوز تحرير فلسطين والمنطقة وربما يشكل منعطفاً سياسياً يغير وجه العالم السياسي والحضاري، وهذا ما تحذر منه الأوساط السياسية الغربية التي تعلق على تصرفات كيان يهود بتحذير الخائف على مصير هذا الكيان والمحذر من مغبة التمادي في إثارة مشاعر الأمة وفكرها.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع