كتب برنارد لويس في 2017م دراسة تحمل عنوان "الإيمان والقوة - الدين والسياسة في الشرق الأوسط"، تطرق فيها لتغيير نمط أنظمة وأفكار المنطقة منذ تغلب الأوروبيون عليها، بعد إزاحة خصمٍ ظل يمنعهم ويقف في وجههم ويبعدهم عنها طوال خمسة قرون من الصراع المرير؛ بدءاً بإخراجهم من الأندلس عام 1492م، ونجاة فينّا عام 1683م من محاولة الفتح الثانية، والبدء في تصفية الإسلام من أوروبا، وانتهاءً بإسقاط دولة الخلافة العثمانية نهاية الحرب العالمية الأولى 1918م. وذكر لويس خضوع البلاد الإسلامية خلال الـ200 عام الأخيرة لتيارات الأفكار الأوروبية، التي شارك في جلبها شباب المسلمين الذين سافروا للدراسة في أوروبا، وانفتحوا على الفكر الأوروبي وسُوِّقَ له عبرهم كسياسيين قرّبهم المستعمرون إليهم، وصاروا على قناعة تامة، بأن أنظمة وأفكار الإسلام هي سبب ما هم فيه من ذل وهوان وتخلف واحتلال، وأن الغرب يملك بيده أسباب الاستقلال والتقدم. وتلاها قضم الاستعمار الأوروبي لأجزاء من البلاد الإسلامية، وبالتالي خضوع المهزوم لأفكار المنتصر، "بدأت بمحاكاة المؤسسات الأوروبية، بسن قوانين تجارية مدنية، جنائية، وأخيراً دستورية" تحت مسمى إصلاحات كارثية بدأها الخليفة محمود الثاني بتقليد أنظمة أوروبا العسكرية والسياسية والتعليمية...الخ، وانتهاءً بثورة الدستور عام 1908م التي أزاحت الخليفة عبد الحميد الثاني، وفتحت الطريق لقبول المسلمين بعد هدم خلافتهم لأنظمة أوروبا، وأفكار فصل الدين عن الحياة، والمساواة، والحرية، وحقوق الإنسان (الجندر)، كانت من عطايا أوروبا أعقاب الحرب العالمية الأولى الوطنية والقومية والاشتراكية.
يعترف لويس في دراسته بأن حكام المسلمين منذ قرن فُرِضُوا قسراً على شعوبهم بطريقة ما، كتمكين المستعمر لهم قبل رحيله، وأنهم لا يستندون في حكمهم إلى قاعدة شعبية حملتهم إلى سدة الحكم. كما يذكر المفارقة بأنه في أمريكا يُستخدم المال لشراء السلطة، بينما يحدث العكس في الشرق الأوسط، إذ يستخدم المرء السلطة للحصول على المال.
ثم أشار إلى الحكام المحليين الذين جاءوا على إثر استقلال البلاد عن الاستعمار، بأنهم ملكيون كالمغرب والسعودية، يتبعهم رعاياهم بالولاء، ودكتاتوريون في الأنظمة الجمهورية، يتبعهم رعاياهم بالطاعة المستمدة من أساليب السيطرة والقسر. واعتمادهم على إلهاء الناس بأمور وقضايا وأحداث فرعية، عن التفاتهم لأفعالهم، وقمعهم للناس إن هم تجرؤوا في إبداء السخط والتذمر من أفعال الحكام، وكبت سخطهم بأساليب بوليسية قاسية، وصرف غضبهم عليهم تجاه عدو خارجي ما. إن وجود سخط شديد واسع الانتشار لدى من يحكمون الناس عن طريق الطاعة بالقهر، ومن يقف وراءهم، ما يوقع دول الغرب التي تقف وراءهم في حرج شديد من فشل الحكام الموالين له الذين طبقوا أنظمته وأفكاره. فالدكتاتوريون عاجزون عن الحفاظ على الاستقرار حيث يحكمون، وفي النهاية سينتهون. لذا جرت العادة أن الحكومات تتغير حول العالم بالانتخابات، وفي الشرق الأوسط تقوم الحكومات بتغيير الانتخابات. إن الأنظمة الموالية للغرب يكون سكانها معادين للغرب، ويكون سكان البلاد المعادية للغرب متطلعين إليه، لعجز الحكام عن تقديم نمط عيش أفضل منه. استفاد الحكام من التحديث وثورة الاتصالات في إحكام السيطرة على الناس بالمراقبة بواسطة أنظمة الاتصالات وأدوات الهيمنة والقمع على نطاق واسع. وتسببت ثورة الاتصالات في حدوث غضب واستياء ضد الغرب، وبينت للناس فقرهم، ورفضهم للإصلاح الديمقراطي.
عجز الحكام المحليون عن إحداث تنمية حقيقية، التخلف الاقتصادي عن بقية شعوب العالم شرقاً وغرباً. وتُزيَّن الدساتير فيها بعبارة دين الدولة الإسلام، أو الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع، وصراحة العلمانية في بلد كتركيا. إقناع طرف من المسلمين بأن الأصوليين المسلمين أخطر على الإسلام من الغرب. قبول الحكام في الشرق الأوسط بالسلام مع كيان يهود وعقدوا معه معاهدات السلام بدءاً من العام 1978م - 1995م التي انتهت بإنشاء السلطة الفلسطينية في رام الله، وكذلك الاتصالات التجارية والدبلوماسية مع كيان يهود.
يوجد تشخيصان لأوجاع المنطقة: أحدهما مرد المشكلة للكفار ومغفليهم ومقلديهم المحليين، والعلاج استئناف الصراع الألفي ضد الكفار في الغرب، والعودة إلى القوانين والسنن الإلهية. وتعالج الأخرى بديمقراطية حقيقية. يوجد تمثيل للحكم الديني وللديمقراطية الليبرالية، ويتوقف مستقبل المنطقة على نتيجة الصراع فيما بينهما.
ما ذكرناه آنفاً هو توصيف برنارد لويس للحكام في بلاد المسلمين، وهو في الأخير ينصح من يقدم لهم دراسته، بالانصراف عن الحكام الحاليين من ملوك ودكتاتوريين إلى جماعات متزايدة تنشد المشاركة في الحكم عن طريق الديمقراطية، وصفها وسماها بأنها منظمات المجتمع المدني، ولم ينس دفع النساء اللاتي يزيد عددهن عن 50% من السكان للمشاركة في الحياة السياسية كمُرَشَّحَةٍ ومُرَشِّحَة. ودعم المنظمات والمرأة من قبل الغرب، وتمويلهما، كي تصل إلى سدة الحكم. كما ينصح بالقبول بالحركات الإسلامية التي تنخرط في اللعبة الديمقراطية ولا تعاديها، ليلحقها بالنتيجة نفسها التي وصلت إليها الحركات القومية والاشتراكية في الإخفاق عن تحقيق أهدافها التي نادت بها من راحة واستقرار وتقدم ورفاهية. واستبداد حكامها وطغيانهم أكثر من المستعمرين الأوروبيين أنفسهم، وإفقار شعوبهم، تفاقم الحرمان والقهر. وهكذا دواليك تبقى البلاد الإسلامية رهن ما تتفتق عنه عبقريته من مخططات تصدر إلينا لحل مشاكلنا وفق رؤيته. وأبدى لويس تخوفه من عدم نجاح لبنان في ديمقراطيته، من بعد خروج ياسر عرفات والقوات السورية عنه، إلى حين ترسيخ الديمقراطية في الجوار.
إن دراسة برنارد لويس ليست مقدَّمة لأهل الشرق الأوسط، بتشخيص ما يعانونه من مرض وتسميته، ومن ثم وصف العلاج الناجع ليبرأوا مما يعانون، ولكنه على العكس تماماً، فهو بعد تلمسه للواقع الذي يعيش فيه الشرق الأوسط يقدم دراسته للأمريكيين الذين ينظرون إلى أن البلاد الإسلامية عاجزة عن الوصول إلى الحكم المتحضر. وعلى أساس هذه النظرة يجب أن تبقى هذه الشعوب تابعة لها لا لغيرها من الاستعمار الأوروبي القديم، الذي ورثت عنه استعمار هذه الشعوب، كي يبادروا بوصف العلاج الذي يبقيهم مستمرين في بقاء شقاء المسلمين، مسيطرين على أهل الشرق الأوسط، متحكمين في موقعه، ناهبين لثرواته بحكامنا، متصرفين فيهم موجهين لهم كي يستمروا في بقاء شقاء المسلمين، ودوام سيطرتهم على الشرق الأوسط عن طريق حكامه.
ويبقى لدينا سؤال بسيط، هل يرضى الناس في الشرق الأوسط عن حكامهم الذين جاؤوا بوصفات غربية مخيبة دامت مائة عام؟ ماذا بقي لدى حكام المسلمين يستطيعون تقديمه لمن يقف وراءهم؟ أم أن المسلمين قد عرفوا الغاية التي لن يتوقفوا دون بلوغها، والطريق الذي عليهم أن يسلكوه لبلوغها؟!
رأيك في الموضوع