الأرقام الجديدة التي صدرت عن الهيئات الرسمية وغير الرسمية في أمريكا؛ في موضوع رفع أسعار الربا البنكية أكثر من مرة خلال فترة قصيرة لم تتجاوز الشهر، وكذلك ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات في جميع مجالات الحياة، والتضخم الكبير الذي وصل إلى أرقام غير مسبوقة، لم تصل إليها منذ أربعين عاما مضت؛ كل ذلك له مؤشرات ودلالات كثيرة، وينذر بأمور خطيرة تجتاح الغرب جميعه، وعلى رأسه أمريكا زعيمة الغرب الرأسمالي.
فقد ذكر موقع سي إن إن بتاريخ 16 حزيران 2022: "أن البنك المركزي الأمريكي قام برفع سعر الفائدة القياسي؛ بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية يوم الأربعاء، وهي أكبر زيادة منذ العام 1994. يأتي ذلك في أعقاب قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية في أيار/مايو، وهي أكبر زيادة منذ 22 عاماً. وهذا يؤكد المخاوف المتزايدة بشأن ارتفاع تكاليف المعيشة..." وتابعت الصحيفة: "من المرجح أن يجبر التضخم المرتفع بنك الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة عدة مرات في الأشهر المقبلة... قد يلجأ مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي إلى زيادات كبيرة إضافية في أسعار الفائدة في محاولة لتهدئة التضخم...".
وذكر موقع بي بي سي في 15 حزيران 2022: "أن البنك المركزي الأمريكي أعلن عن أكبر زيادة في سعر الفائدة منذ حوالي 30 عاما؛ في إطار جهوده المكثفة لكبح جماح ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية. وقال البنك: إنه يتوقع حدوث مزيد من الزيادات... وأظهرت التعليقات الصادرة بعد الاجتماع: أن المسؤولين يتوقعون أن تصل أسعار الفائدة إلى 3.4 في المئة بحلول نهاية العام، وهي خطوة سيتأثر بها الناس في صورة ارتفاع تكاليف الاقتراض الخاصة بالرهون العقارية، وقروض المدارس وبطاقات الائتمان"، وذكر موقع الجزيرة 11/6/2022. "إن التضخم في أمريكا سجل رقما قياسيا لم يصل إليه منذ 40 سنة، في حين دعا الرئيس جو بايدن إلى بذل "جهد أكبر وأسرع" في هذا الصدد، وبلغت نسبة التضخم السنوي 8.6%".
إن ما يجري في أمريكا على وجه الخصوص، والغرب بشكل عام لينذر بكارثة اقتصادية جديدة، تطال كل مفاصل الحياة، ويفاقم الكساد والركود في أمريكا على وجه الخصوص، وتنتقل مثل النار في الهشيم إلى كل دول أوروبا؛ تماما كما حصل في أزمات سابقة مثل أزمة سنة 2008. فقد نشرت صحيفة الإيكونوميست البريطانية تقريرا بتاريخ 8/6/2022: "حذرت فيه من تفاقم الكساد والركود الذي يضرب الاقتصاد الأمريكي؛ وذلك كنتيجة للحرب الروسية على أوكرانيا... وذكرت أن هذا الكساد والركود الأمريكي قد يؤدي إلى توجيه ضربة أخرى للأجزاء الضعيفة من الاقتصاد العالمي من خلال كبح الطلب على صادراتها...".
فما هي التأثيرات المنظورة على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى اقتصاد أمريكا بشكل خاص؟ وما هو المخرج والمنجى للبشرية من هذه الكوارث المتتابعة والمتفاقمة يوما بعد يوم؟
وقبل أن نذكر التأثيرات المرحلية والمنظورة لأزمة التضخم بسبب الحرب الأوكرانية، وما ارتبط بها وتفرع عنها من عقوبات اقتصادية مشددة نقول: بأن طبيعة الفكر الغربي؛ ومنه النظام الاقتصادي، يتسبب بالأزمات الاقتصادية المتعددة والمتجددة، وطبيعة سلوك الدول الكبرى الحاملة لهذا الفكر الشرير الهابط تزيد من جذوة نار هذه الأزمات التي تشتعل في كل مناحي الأرض، ويكتوي بها البشر والشجر والحجر، والمناخ والأجواء على وجه الأرض.
فقد شهد العالم أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية كثيرة بسبب هذا النظام الفاسد، ودوله المتوحشة التي تقدس الطين والتراب، ولا تعير اهتماما لإنسانية الإنسان، مع أنها تدّعي زورا بأنها تدافع عن حقوق الإنسان. وسطرت ذلك مواثيق في هيئاتها الدولية، كهيئة الأمم المتحدة. ومن هذه الأزمات: الأزمة الإنسانية العالمية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحصدتا أرواح البشر؛ حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين مليونا، عدا عن الجرحى والمشردين. وأزمة الكساد الكبير التي اجتاحت أمريكا سنة 1929، واستمرت عشر سنوات متتالية، وامتدّت نارها إلى كل أرجاء الأرض، وتسببت بخسارات مالية كبيرة. والأزمة المالية الشاملة سنة 2008، والتي دمرت الكثير من رموز الاقتصاد العالمي، وتسببت بتريليونات الدولارات من الخسائر.
إن التضخم وارتفاع الأسعار الناتج عنه وانكماش المشاريع، وتعطل كثير من أمور التجارة الداخلية والخارجية، يهدد بالفعل الاقتصاد الأمريكي بالكساد والركود، وبالتالي التأثير على كل أمور الاقتصاد العالمية. فطول أمد الحرب يؤثر تأثيرا مباشرا على الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي على الاقتصاد العالمي؛ لأن كل العالم مرتبط بهذا الاقتصاد، وأي تأثير عالمي يؤثر ويتأثر به سريعا، وبشكل ملموس. فالتضخم يؤدي إلى انخفاض قيمة النقد، وبالتالي إلى ارتفاع الأسعار بشكل تلقائي وشامل لكل السلع والخدمات، وإلى تناقص قيمة الأجور لدى الموظفين والعمال، وإلى انخفاض قيمة المدخرات لدى عامة الناس. وعادة ما تلجأ الدول إلى معالجة هذا الأمر بوسائل عدة: أبرزها رفع نسبة الربا، وخفض الضرائب على السلع والخدمات؛ وذلك حتى تسحب الأوراق المالية من الأسواق، وبالتالي ترفع قيمة النقد، إلا أن هذا الأمر لا يسلم من مخاطر أكبر تؤدي إلى قلة المشاريع، وإحجام الناس عن الاقتراض للمشاريع، وبالتالي قلة السلع، ومن ثم ارتفاع الأسعار، وارتفاع نسبة البطالة. وكلا الأمرين شر يداهم الاقتصاد، ويتسبب بالكساد وتباطؤ النمو والركود، ولا يجدي في حلّ مسألة التضخم بشكل فاعل يرفع المشاكل وما يترتب عليها.
إن السبب الرئيس لهذا التضخم النقدي هو: البعد عن النظام الصحيح في مسألة النقد: أي عدم ارتباط النقد بشيء ثابت يحمل قيمته في ذاته؛ بمعنى آخر: هو عدم ربط النقد بالذهب والفضة كأساس وغطاء لهذا النقد. أما الأمور الأخرى المتعلقة بالحرب الأوكرانية، أو أزمة كورونا أو أزمة الرهن العقاري التي تسببت بأزمة 2008 فكل هذه الأمور هي عبارة عن هزات وعوارض تؤثر في نظام هشّ ضعيف فتزلزله، ولا تؤثر في أساس صلب قوي قائم على الذهب والفضة كغطاء وأساس لكل الأوراق المالية. فأزمة كورونا على سبيل المثال زلزلت هذا النظام النقدي الواهي. وأزمة الحرب الأوكرانية، وما رافقها من عقوبات اقتصادية أدت إلى غلاء الأسعار، وارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع المواد الخام والطاقة، وانحسار مساحة الأسواق للمنتوجات، وغير ذلك مما تسببت به الحرب. كل ذلك زلزل نظاما ضعيفا هشاًّ غير قائم على أسس ثابتة متينة قوية.
إن الحل لكل هذه المشاكل سواء أكان التضخم وما يسببه من انكماش وكساد، أو الحروب من أجل الأطماع والأموال، أو الدمار الاقتصادي، أو الخوف والرعب والتهديد بدمار البشرية بسبب الأسلحة النووية... وغير ذلك من أزمات تعصف بوجه الأرض، إن الحل والنجاة من كل ذلك هو فقط بطريق واحد لا غير وهو الطريق الرباني؛ طريق الهداية والرشاد، الذي يعرف إنسانية الإنسان، ويحمل الهداية للبشرية ولا يفكر في أموالها.
إن كل ما يجري على وجه الأرض إنما هو نذيرٌ وبشير؛ نذيرٌ لهذه الدول المتغطرسة المتحكمة برقاب الناس، وتنطق بمقولة فرعون ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾! ونذيرٌ في الوقت نفسه للبشرية جميعا أن طريق خلاصها لن يكون بهذه الأنظمة التي سامتها سوء العذاب، ونشرت الخوف والرعب والفقر والتشرد والحرمان في ربوعها. وبشيرٌ لأمة الإسلام بقرب زوال هذه الأنظمة المتهاوية الهابطة، وسيادة الإسلام وظهوره على الدين كله في كل ربوع الأرض.
رأيك في الموضوع