الأزمات التي نتجت عن النظام الرأسمالي كثيرة ومتعددة ومتجددة، ولا تقف عند حدّ معين، ويمتدّ شررها ويتطاير هنا وهناك، ويتسبب ذلك بمشاكل دولية كثيرة؛ منها الفقر، والاستعمار، والأمراض الفتاكة، والطبقية المقيتة... وغيرها من أزمات تبرز بين كل فترة وفترة من الزمان. ومن أبرز الأزمات التي نتجت عن النظام الرأسمالي الأزمة الاقتصادية؛ بمظاهرها المتعددة والمتجددة. ولا نريد أن نبحث هنا في أسباب هذه الأزمة، ولا مظاهرها الكثيرة، ولا طرق انتقالها إلى الدول الأخرى، فهذا موضوع يحتاج إلى بحث منفرد، ولكننا سنبحث في الصراع الحاصل اليوم على الموقف الدولي، وما يسببه ذلك من اتساع لدائرة الأزمة الاقتصادية العالمية.
فما هي هذه الصراعات؟ وما مدى تأثيرها على الأزمة الاقتصادية؟ وكيف يكون هذا التأثير؟ وإلى أيّ حدٍّ يمكن أن يمتدّ هذا الخطر العالمي؟ وما هي السبيل لإيقاف مخاطره؟
وقبل الإجابة عن الأسئلة نقول: بأن الصراعات الدولية على حطام الدنيا، ومن أجل السطوة والسيطرة هي أزمة بحدّ ذاتها في النظام الغربي، ونتج عنها أمورٌ كثيرة منها: الأزمة الاقتصادية. فالحروب المدمرة، ونظام التحكمات بالشعوب والدول الضعيفة، والمكائد الدولية، والسياسات السقيمة المبنية على اللفّ والدوران، والكذب والخداع؛ كل ذلك نتائج لهذه النظرة الرأسمالية الشريرة الهابطة.
إن الأزمة الاقتصادية العالمية ليست وليدة هذه الأيام وإنما بدأت مع ميلاد هذا النظام الشرير، وأخذت تتسع وتتفاقم مع اتساع رقعة هذا النظام وامتداده زمانياً ومكانيا. لقد نتجت أزمات كثيرة في السنوات السابقة عن الصراعات الدولية؛ سواء على مناطق النفوذ الاستعماري أو على الموقف الدولي، أو غير ذلك من ألوان الصراعات التي تولّدت عن هذا النظام.
لقد اتبعت الدول الكبرى العالمية أساليب متعددة في صراعها الدولي؛ سواءٌ من أجل إبقاء السطوة والهيمنة؛ كما هو حال أمريكا، أو من أجل إزاحة أمريكا عن هذه المرتبة؛ من أجل المشاركة أو التخفيف من شرورها وسطوتها الدولية؛ كما هو حال الصين وروسيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي. وكل هذه الصراعات تسببت في اتساع رقعة الأزمة العالمية، وتمدّدها إلى مناطق كثيرة، وبالتالي اكتواء البشرية بنارها وشررها.
إن أبرز هذه الصراعات والصراعات المضادة هي محاولات أمريكا إبقاء نظام الهيمنة الدولية على الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه ما تفعله الدول الكبرى الأخرى من أجل التفلت والانعتاق من سيف أمريكا المسلط على رقابها. وقد تولّد عن هذا الأمر بعض الصراعات العسكرية في مناطق من العالم، وصراعات اقتصادية متعددة أيضا، وكل ذلك أخذ يزيد من رقعة الأزمة الاقتصادية الدوليّة الموجودة.
لقد قامت أمريكا بأعمال سياسية وعسكرية متعددة، وفي أكثر دول العالم؛ لإبقاء هيمنتها وترسيخها على العالم؛ وكان لها بالتالي تأثير مباشر على مسألة اتساع رقعة الأزمة، وتمدّدها إلى مناطق كثيرة من العالم، من هذه الأمور:
1- أعمال أمريكا لإبقاء هيمنة الدولار عالميا كغطاء للعملات العالمية، وأداة للتبادلات التجارية وخاصة في السلع الاستراتيجية مثل البترول والغاز وغيره. وفي الوقت نفسه محاولات الدول الأخرى للانعتاق من هذه الهيمنة بأساليب شتى، تحاول من خلالها الاستقلالية والتحرّر المالي والانعتاق من هذه الهيمنة المالية.
2- العمل على تحجيم الصين اقتصاديا وسياسيا وعسكريا؛ حتى لا تؤثر على هيمنة أمريكا وسيطرتها الدولية، وكذلك حتى لا يمتد نفوذها كدولة صناعية وعسكرية منافسة إلى دول أخرى تؤثر في هيمنة أمريكا مستقبلا.
3- إشعال الصراعات العسكرية للتأثير على بعض الدول؛ حتى تفكّ شراكتها الاستراتيجية، أو تشغلها بصراعات تجعلها تدور في دائرة معينة، وتنشغل عن منافستها لأمريكا، مثل الأزمة الحاصلة اليوم في أوكرانيا.
4- محاربة التطور التقني والعلمي عند الدول الأخرى؛ خاصة ما تقوم به أمريكا تجاه الصين وروسيا في موضوع صناعة الإلكترونيات والأسلحة المتطورة. وكذلك حرمان روسيا من الأسواق لبيع السلاح المتطور كما حدث مع الهند وتركيا.
5- ترسيخ نظام الهيمنة السياسية على الدول الضعيفة؛ من أجل الأسواق والمواد الخام، وقطع الطريق على الدول المنافسة.
6- ما تقوم به أمريكا من محاربة التحالفات الدولية؛ خاصة ما تقوم به تجاه الصين وروسيا، والاتحاد الأوروبي؛ لمحاربة أي محاولة للتفلت من سطوتها وسيطرتها العالمية.
7- نظام التحكمات الأمريكي في بعض السلع الحيوية؛ مثل البترول والغاز والزيت الصخري، وفرض نظام من الهيمنة في الأسعار والتبادلات والشركات المنتجة، وطريقة إجراء العقود بالدولار الأمريكي.
إن تأثير الأمور السابقة من الصراعات والصراعات المضادة قد فاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، ووسع دائرتها، وتسببت في مشاكل كثيرة؛ مثل الفقر والبطالة، وتحجيم الموارد في بعض الدول، وارتفاع الأسعار، وتحطم اقتصادات شركات وبنوك وربما دول، وغير ذلك مما ترتب على هذه الأمور. لقد أضيف إلى عمق الأزمة الاقتصادية، وتعدّد روافدها وأسبابها، وتمددها في العالم، واتساع رقعتها، أزمة الصراع الحاصلة اليوم بين الأجنحة العملاقة في أطراف أوروبا، بين الصين وروسيا وأحلافهما من جانب، وأمريكا والاتحاد الأوروبي وأحلافهم من جانب آخر، ومن مظاهر هذا الصراع، وما تولد عنه الأزمة العسكرية الحاصلة اليوم في أوكرانيا، وما يكتنفها من أمور كثيرة؛ لها تأثير كبير على الأزمة الاقتصادية العالمية، وما يمكن أن تصل إليه الأمور مستقبلا نتيجة اتساع دائرة هذه الأزمة وتمددها.
إن الأزمة الحاصلة اليوم في أوكرانيا هي مظهر لصراع مرير وخطير في الوقت نفسه؛ من أجل ترسيخ الهيمنة الأمريكية على العالم، ومنع بروز أي منافس حقيقي يُنزل أمريكا عن هذه المرتبة العالمية، ومحاولة الدول الأخرى الانعتاق من هذه الهيمنة العالمية الشريرة؛ لأن إنزال أمريكا عن مرتبتها يعني توجيه ضربة قاضية للاتحاد الأمريكي برمته؛ والسبب هو أن سرّ بقاء أمريكا هو في هيمنتها السياسية العالمية، وبسط أجنحتها بالقوة على العالم؛ لأنها قائمة أصلاً على ابتزاز العالم، ونهب ثرواته، وعلى التحكم في الأسواق العالمية، وليس على قوتها الذاتية وحدها، وإذا فقدت هذه الميزة الدولية الشريرة فإنها تفقد الموارد الرئيسية لاقتصادها المنتفخ والمتمدد أكبر من حجمه أضعافا مضاعفة، ولا تستطيع أن تقوم بالنفقات والتبعات العالمية التي تتحملها؛ بوصفها الدولة الأولى في العالم، وهي في الحقيقة أكبر من حجمها الاقتصادي بمرات عديدة؛ ففي تقرير نشرته صحيفة تلغراف البريطانية، 21/9/2021 يقول الكاتب تيم والاس: إنه من المقرر أن تصل ديون الحكومة الأمريكية منتصف تشرين الأول المقبل إلى 28.5 تريليون دولار، وبالتالي تقلص السيولة في وزارة الخزانة الأمريكية، ووصل العجز الأمريكي حوالي 3 تريليون دولار عام 2020 وهو في ارتفاع مستمر.
يتبع ...
رأيك في الموضوع