منذ أن تخلى العالم عن قاعدة المعدنين الذهب والفضة، وظهور النقود الورقية بمراحل وصورها الثلاث: النقود الورقية النائبة المغطاة بالذهب، والنقود الورقية الوثيقة المغطاة بنسبة محددة، والنقود الورقية الإلزامية التي ليست مغطاة بالذهب، فقط بقوة القانون، والعالم تضربه الأزمات المالية والاقتصادية. وبدأت تظهر الفوارق العظيمة بين اقتصاديات الدول، وتتسع الهوة بين الدول الكبرى ودول العالم الثالث حيث استطاعت الدول الاستعمارية أن تحوز ثروات وموارد دول العالم الثالث بأبخس الأثمان نتيجة لفارق قوة عملتهم الشرائية والسوقية مقابل عملة الدول المتأخرة حيث تقوم الحكومات العميلة المرتبطة بالدول الاستعمارية بطباعة العملة المحلية دون ضابط ولا رابط؛ بل كلما احتاجت طبعت فأغرقت البلاد بالنقود حتى أصبحت لا قيمة لها، وبالتالي مقابل كل دولار مثلا تستطيع أن تحوز كمية من النقد المحلي في أي بلد من بلاد العالم الثالث تشتري بها ما تشاء. ما مكن الدول الاستعمارية من نهب ثروات الشعوب. هذا بالضبط ما يفسر إصرار صندوق النقد الدولي على الحكومات بأن تقوم بتعويم سعر صرف عملتها المحلية مقابل الدولار وما تسمى بالعملات الحرة.
من المعلوم أن النقود هي وسيلة لتبادل السلع والخدمات واستيفاء الحقوق. كما أنها وثيقة تاريخية تحكي النقوش التي عليها وتاريخ سكها والعبارات المكتوبة عليها، تحكي عن الحقبة التي سكت فيها وعن الثقافة والقيم الحضارية السائدة في تلك الحقبة. لكنها منذ مؤتمر بريتون وودز الذي عقد عام ١٩٤٤م في مدينة بريتون ضاحية غابات نيوهامشير الأمريكية والتي منها أخذ اسم المؤتمر بريتون وودز، نقول من ذلك التاريخ تحولت النقود الورقية من وسيلة لتبادل السلع والخدمات إلى أداة اقتصادية قاتلة استطاعت أمريكا من خلالها ربط عملات العالم بالدولار أو تحويل احتياطات الدول إلى الدولار بدلا من الذهب. فقد اجتمع ٧٣٠ وفداً عن ٤٤ دولة من ١ إلى ٢٢ تموز/يوليو ١٩٤٤ في فندق جبل واشنطن قرروا فيه تكريس الاستعمار ورهن العالم لأمريكا عبر مقررات هذا المؤتمر التي جاء فيها:
١- إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة، تلك المؤسسات الاستعمارية وأداة قهر الشعوب واستعبادها.
2- قيام النظام النقدي الجديد على أساس الصرف بالدولار الذهبي وبذلك تحول الدولار الأمريكي من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية، وعليه على كل دولة عضو في الصندوق أن تحدد قيمة تبادل عملتها المحلية بالنسبة إلى الدولار الأمريكي بالوزن والعيار النافذين في ١ تموز/يوليو ١٩٤٤ وهو ١ دولار يساوي ٠,٨٨٦٧١ جرام ذهب، قد التزمت أمريكا أمام المصارف المركزية للدول الأعضاء بتبديل حيازتها من الدولارات الورقية بالذهب وعلى سعر ثابت وهو ٣٥ دولاراً لكل أوقية (أونصة) ذهب. وبعد أقل من ٣٠ عاما غدرت أمريكا بهم وتحديدا في 15/8/1971م أعلن الرئيس نيكسون وقف تبديل الدولار إلى ذهب. وهو ما حدا بدول العالم إلى دعم الاقتصاد الأمريكي والدولار عبر الأزمة المالية العالمية والتي بدأت بانهيار سوق العقار ثم التأمينات في البنوك في أمريكا حتى اجتاحت العالم وذلك من أجل الحفاظ على مدخراتهم واحتياطياتهم المالية من الضياع. الآن أمريكا تستطيع عبر هذه الورقة أن تحوز من ثروات العالم ما تشاء؛ فتفقر الدول وتقتل الشعوب.
الآن يتولى صندوق النقد والبنك الدوليان مهمة الانقضاض على الدول وتركيع حكوماتها ونهب ثرواتها عبر فرض تعويم عملتها وربطها بالقروض الربوية غير القابلة للسداد ما يسمى بالاستثمار الأجنبي فترهن قرارها السياسي للدائنين وتسلم ثروات شعبها للسيد.
هكذا تجري الأمور وهو ما يجب أن تعيه شعوب العالم والمسلمون بخاصة، حيث نجد هذا السيناريو يتكرر في كل بلاد المسلمين. وفي السودان نجد هذا السيناريو واضحا جدا فقد قام صندوق النقد والبنك الدوليان بالضغط المستمر على حكومة الإنقاذ التي كانت تمتنع عن تنفيذ الروشتات المهلكة للشعب والناهبة لثروات البلاد حتى أخضعتها بعد استنزاف الدولة في حروب داخلية مهلكة وقاتلة (حرب الجنوب ودارفور) في عام ٢٠١٧م خضعت الدولة لشروط الصندوق والبنك الدوليين وسمحت لهما بالتدخل في وضع الموازنة العامة للدولة. فكانت موازنة العام ٢٠١٨م هي قاصمة الظهر التي أسقطت حكومة الإنقاذ العميلة التي بدأت خطوات تسليم البلاد بكل ثرواتها ومواردها الهائلة للدول الاستعمارية الطامعة في بلادنا. وقام وزير المالية في تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٨م بخطوات تعويم العملة لأول مرة في تاريخ السودان حيث قام بتكوين لجنة سماها آلية صناع السوق، لتحديد سعر صرف الجنيه مقابل الدولار ضمن سياسة المالية لتحرير سعر الصرف، والذي بموجبه يقوم البنك المركزي بتحديد صرف الجنيه مقابل العملات بسعر تأشيري للدولار، في أول يوم لآلية صناع السوق رفعت سعر صرف الدولار مقابل الجنيه من 29,5 جنيهاً للدولار إلى 47,5 جنيهاً، فانعدمت السيولة وارتفعت الأسعار وانعدمت السلع ما أثار غضبة الشارع وثورته حتى أسقط البشير وحكومة الإنقاذ. ولما جاءت حكومة الفترة الانتقالية (حكومة حمدوك) جاء وزير ماليته الأول إبراهيم البدوي ليكمل ما بدأه وزير الإنقاذ معتز موسى فقام البدوي بخطوات جريئة لا يقدم عليها إلا خائن وعميل؛ حيث قام بتعويم العملة بالكامل في شباط/فبراير 2021 فارتفع سعر صرف الجنيه مقابل الدولار من 55 إلى 375 جنيها، وضاعف طباعة العملة وزاد المرتبات إلى 600 ضعف حتى وصل التضخم في شهور قليلة إلى 300% بحسب تقارير البنك الدولي نفسه.
كل ذلك بزعم البدوي لإصلاح الاقتصاد الكلي وجلب المنح والمساعدات والاستثمارات، ويساعد على إعفاء الديون، فهل تحقق شيء من ذلك؟
قطعاً لم يتحقق شيء من ذلك، بل زاد الطين بلة فانخفضت العملة إلى مستويات خيالية (أكثر من 800 جنيه للدولار) وتضاعفت أسعار السلع أضعافاً مضاعفة، حيث ارتفع سعر جالون البنزين من 28 جنيهاً عند سقوط الإنقاذ إلى 3,300 جنيه، وأسطوانة غاز الطبخ من 150 جنيهاً إلى 5,000 جنيه مع عدم الوفرة، فأحالوا حياة الناس جحيماً، ثم الضرائب والمكوس والجبايات الحرام التي عمقت المشكلات فتمظهرت في كثرة الطلاق والتفكك الأسري والانفلات الأمني غير المسبوق، ما ينذر بانفجار يُذهب الدولة ويمزقها. كيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟ وما هو الحل؟
نحن أمة مهدية بكتاب ربها وسنة نبيها، فقد جعل الإسلام النقد أساسه الذهب والفضة، فربط أحكام الإسلام وشعائره التعبدية بالذهب والفضة، كالزكاة والديات مثلا بما يحفظ جهد الناس ومدخراتهم. وحرم الربا وقبح فعله، وجرّم من يجعل للكافرين علينا سبيلا. كما حرم المكوس من جمارك ورسوم إنتاج وغيرها حتى تبقى الأسعار في متناول الناس، وبشكل عملي لا يمكن أن تنجلي هذه الأزمة إلا بالرجوع إلى أحكام الإسلام وتطبيقه في دولة خلافة على منهاج النبوة تضع الأمور في نصابها، فتعيد قاعدة الذهب إلى العمل من جديد وذلك ابتداء بحصر كميات الذهب التي تنتجها البلد، ثم قسمة كمية النقد الموجود على كمية الذهب الموجود بحيث يحدد سعر صرف لعملة البلد، فلا تعود لطباعة النقد إلا مقابل ذهب تملكه فيستقر سعر الصرف، وتستقر الأسعار، وتحفظ الأمة ثرواتها، وتقطع دابر الكافرين من بلادنا.
الخلافة وحدها التي تفعل ذلك، فكانت الدعوة لإقامتها دعوة متجددة، توجبها صحة وصدق معالجات الإسلام، وضرورة الواقع للخروج مما نحن فيه، فشمروا سواعد الجد للعمل مع حزب التحرير وأميره العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة لإقامتها خلافة راشدة على منهاج النبوة. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ ناصر رضا محمد عثمان
رئيس لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع