أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد، الأربعاء 30 آذار/مارس، حلّ مجلس النواب، وذلك بعد ثمانية أشهر من تعليق أعماله وتوليه كامل السلطة التنفيذية والتشريعية في تموز/يوليو 2021. قرار سعيّد جاء بعد ساعات من عقد أكثر من 120 نائبا من بين 217 نائبا في البرلمان التونسي، جلسة عبر تقنية الفيديو، صوّت خلالها 116 نائبا بنعم على مشروع قانون يلغي الإجراءات الاستثنائية التي بدأها سعيّد في 25 تموز/يوليو الماضي، ومنها تجميد اختصاصات البرلمان وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وحل المجلس الأعلى للقضاء.
ويعتبر اجتماع البرلمان هذا من أخطر الأعمال السياسية التي تهدد حكم الرئيس سعيّد، لأن النواب لهم صفة رسمية انتخابية ومعترف بهم لدى اللاعبين الدوليين في تونس، ويمكن أن يؤدي قرارهم إلى وضع شبيه بما يحدث في ليبيا من انقسام بين سلطتين: واحدة تسيطر عمليا على كل السلطات وتحتكر القوة القاهرة، متمثلة في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وأخرى موازية من خلال البرلمان المعلقة أشغاله، والذي عقد جلسة عبر الفيديو، وصادق على قرار يضع حدّاً للإجراءات الاستثنائية في البلاد، وربما يقدم لاحقا على نزع الشرعية من الرئيس نفسه.
لذلك وصف الرئيس سعيّد الاجتماع بأنه "محاولة فاشلة للانقلاب وتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وسيتم ملاحقتهم (النواب) جزائيا". وهكذا كان حيث طلبت وزيرة العدل التونسية ليلى جفال من وكيل الدولة بمحكمة الاستئناف فتح تحقيق ضد النواب الذين عقدوا الاجتماع "بتهمة التآمر على أمن الدولة وتكوين وفاق إجرامي"، وتم على إثرها يوم الجمعة 1 نيسان/أبريل مثول عشرات النواب أمام فرقة مكافحة الإرهاب وعلى رأسهم رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي، الذي تحدى قرار حل البرلمان في تصريح صحفي لوكالة فرانس برس بقوله: "نعتبر أن البرلمان قائم" و"الرئيس ليس من حقه الدستوري حل البرلمان".
لقد زادت إجراءات الرئيس سعيّد من حدة التموقع بين الرئيس وخصومه وأظهر إلى العلن الصراع الدولي على النفوذ في تونس بين فرنسا وبريطانيا وأمريكا، حتى أصبحت تونس أكثر من أي وقت مضى مرتعا للتدخلات الخارجية ومسرحا للصراعات الدولية، فجلسة البرلمان تم الترتيب لها بعد التحركات اللافتة لسفيرة بريطانيا هيلين ونترتون في تونس التي التقت بالعديد من المسؤولين وعلى رأسهم رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، وذلك في 11 آذار/مارس تناول خلالها علاقات الصداقة بين البلدين على ضوء المستجدات الأخيرة في تونس. كما جاء قرار إلغاء الإجراءات الاستثنائية من طرف البرلمان بعيد زيارة وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان عزرا زيا والتقت خلالها بكبار المسؤولين الحكوميين، بمن فيهم رئيسة الوزراء نجلاء بودن، ووزير الخارجية عثمان الجرندي، ووزير الداخلية توفيق شرف الدين، والتقت أيضا بممثلين عن المجتمع المدني وشددت في زيارتها إلى تونس على أهمية تعزيز الديمقراطية في تونس وتنفيذ عملية إصلاح سياسي واقتصادي شاملة بالتنسيق مع الأحزاب السياسية والاتحادات النقابية والمجتمع المدني.
وبالرغم من دعم فرنسا لقيس سعيّد منذ انقلابه على خصومه في 25 تموز/يوليو، للمحافظة على مصالحها وبهدف تصفية عملاء بريطانيا وعلى رأسهم قيادات حركة النهضة وضرب الركائز التي كانت تعتمد عليها بريطانيا في ربط البلاد بنفوذها كحل البرلمان وضرب الحكم المحلي وتعطيل المحكمة الدستورية وتغيير كوادر وزارة الداخلية والإطاحة بالمجلس الأعلى للقضاء، إلا أن هذا الدعم لن يكون له جدوى إذا ما تفجرت الأوضاع المعيشية في وجه الرئيس بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة وارتفاع الأسعار وندرة المواد الأساسية والطوابير أمام المخابز التي أصبحت مشهدا مألوفا في تونس.
إذن التحدي الكبير الذي يواجه الرئيس سعيّد هو الأزمة الاقتصادية الخانقة والمديونية الهائلة التي تجاوزت 100 مليار دينار، وعلى الحكومة أن تجد مصادر لتعبئة خزينة الدولة الخاوية، وهو أمر مستبعد بسبب عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي ضغط على المؤسسات المالية بعدم تقديم قروض لتونس إذا لم تتوصل تونس إلى توقيع اتفاقية مع الصندوق، وهو ما يشكل أداة ضغط على قيس سعيد من طرف الدول التي تتحكم في مصادر التمويل وعلى رأسها أمريكا، المستفيد الأكبر مما أقدم عليه سعيد، حيث لم تتوقف وفودها عن زيارة تونس ونشط سفيرها دونالد بلوم في الأوساط السياسية ومنظمات المجتمع المدني وحتى في الجيش، والملاحظ أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، زار الأسبوع الفائت المغرب والجزائر واستثنى تونس، وهو ما يذكرنا بلقاء قائد أفريكوم الجنرال تاونسند في جولته المغاربية في 28 أيلول/سبتمبر الماضي برئيس الحكومة الليبية الدبيبة والرئيس الجزائري تبون ولكنه لم يلتق الرئيس قيس سعيّد (بالرغم من أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة) واقتصر على رؤساء الأركان في الجيش التونسي، وهي رسالة سياسية مفادها أن أمريكا غير راضية على إجراءات الرئيس وتريد إنهاء الحالة الاستثنائية.
فشل الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي تمثل الركيزة والخطوة الأولى لخارطة الطريق التي طرحها بما تتضمنه من محطات كبرى: أبرزها تنظيم استفتاء حول تعديل الدستور يوم 25 تموز/يوليو وإجراء انتخابات تشريعية يوم 17 كانون الأول/ديسمبر القادم، لن تثني قيس سعيّد عن السير نحو تحقيق مشروع اللامركزية الذي يمر عبر المجالس المحلية لتشكيل السلطة التشريعية والرقابية من المحلي نحو المركزي، وهو ما سيزيد من عزلة الرئيس وقد يدفع فرنسا لرفع الغطاء عنه وتغييره بأحد رجالاتها، هذا ما لم تسبقها بريطانيا أو أمريكا التي بدأت تتمدد في الكثير من الأوساط النافذة في البلاد.
لن تستقر الأوضاع لقيس سعيد ولا لخصومه، فالشعب التونسي الذي كان شرارة التغيير في الشمال الأفريقي زمن الفتح الإسلامي، والذي كان المحرك للشعوب الإسلامية؛ في هذه الثورة المباركة التي أحدثت تغييرا منقطع النظير في النفوس والعقول، سوف يقلب الطاولة على الاستعمار وأدواته المحلية ويؤسس لتغيير حقيقي على أساس الإسلام، في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة.
بقلم: الدكتور الأسعد العجيلي
رأيك في الموضوع