نموذج الأحداث والصراعات الدولية الحاصلة اليوم في أوكرانيا، بين الدول الكبرى، أو الدول الإقليمية المجاورة، وربما تحل وتحصل مستقبلا كذلك في مناطق متعددة في العالم في الأماكن المرشحة لمثل هذه الصراعات؛ مثل تايوان وكوريا الشمالية، أو بعض الدول المحاذية لروسيا، في المنظومة السياسية الروسية لما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. هذه الصراعات والأحداث هي مظاهر لأحداث وصراعات لا تنفصل عن الصراع الدولي العالمي بين الدول الكبرى؛ من أجل الهيمنة والسطوة والسيطرة، وإبقاء سياسة الهيمنة والغطرسة الأمريكية لأكبر مدة تستطيعها. ولا تقف هذه الصراعات عند حد صراع على منطقة محصورة في أوكرانيا، أو في غيرها مستقبلا، بل إن هذه الصراعات امتداد لأمر أكبر؛ وهو هيكلية الدول والموقف الدولي، ومحاولات أمريكا ترسيخه بكل قوتها وثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري. وفي الوقت نفسه محاولات الدول الأخرى التفلت من هذه السطوة، وهذا القهر والتسلط السياسي والاقتصادي والعسكري. ولا بد لفهم هذه الأمور من الوقوف عند معنى الموقف الدولي وطبيعته الحالية وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ونقصد بالموقف الدولي: مركز الدولة الأولى في العالم، والدول التي تزاحمها، وهو يتعلق بهيكلية العلاقات الدولية، والدول المؤثرة في هذه الهيكلية الدولية. وفهم هذا الموقف يستلزم فهم موقع الدول الفاعلة عالميا في السياسة الدولية، وفهم علاقاتها ومشاريعها، وأعمالها السياسية في المحافظة على مركزها كدولة أولى، أو دولاً مزاحمة لها، وفهم علاقات هذه الدول مع الدول الأخرى؛ سواء أكانت حليفة أو تابعة أو تدور في فلك؛ لأن هذا كله يؤثر في طبيعة العلاقات الدولية وتشكيلة الموقف الدولي، والتغيرات والمؤثرات التي تعتريه، أو تدخل في إطاره. والموقف الدولي أو هيكلية العلاقات بين الدول الفاعلة عالميا، لا يدوم على حال، فهو في تغير مستمر وقد ينشأ بين عشية وضحاها؛ كما حصل عندما انهار الاتحاد السوفيتي، وتفكك حلف وارسو. وقد يحتاج الأمر إلى مدة طويلة من الصراع المرير والمستمر حتى يتبلور ويتشكل؛ كما جرى بعد الحرب العالمية الثانية في بروز أمريكا والاتحاد السوفيتي، وكما يجري كذلك هذه الأيام على الساحة الدولية. هذه بإيجاز نبذة عن مفهوم الموقف الدولي وهيكلية العلاقات الدولية.
لقد مر هذا الصراع الدولي وهيكلية العلاقات الدولية، وبروز الدول المؤثرة عالميا بأدوار عديدة، وحالات متغيرة ومتقلبة خلال الألفية السابقة وبداية الألفية الجديدة، كانت تتغير فيها تشكيلات الدول، من حيث التأثير في الموقف الدولي، أو السيطرة على الدولة الأولى في العالم. وتتغير كذلك شكل المنظومة في هذا الموقف؛ من حيث القوة وفرض السيطرة على باقي الدول، أو الضعف وعدم القدرة على التأثير في الساحة الدولية. وسوف نتحدث عن مرحلة كنموذج لهذا الصراع، وهيكلية الدول الفاعلة والمؤثرة عالميا. هذه المرحلة هي: ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؛ في هذه المتغيرات الدولية على الموقف الدولي والفترة التي تلت ذلك حتى يومنا هذا؛ لنصل إلى المسألة الأوكرانية كنقطة تحول بارزة في التأثير في المتغيرات الدولية، نحو وضع جديد يضاف إلى مؤثرات أخرى قد توصل إلى بلورة وبروز موقف دولي جديد في الساحة الدولية في المستقبل القريب.
لقد تشكل الموقف الدولي بوجه جديد، وقوى فاعلة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية برزت فيه أمريكا قائدة لحلف الأطلسي، وبرزت روسيا قائدة لحلف وارسو. وظل هذا الوجه طوال الفترة التي سبقت سنة 1990، أي تفكك حلف وارسو، وانتهاء قوة وتأثير المنظومة الشرقية كدولة ثانية مؤثرة في الموقف الدولي. لقد برزت أمريكا كدولة متفردة، أو شبه متفردة في الموقف الدولي، وفي رسم سياسة العالم، ورسم خرائطه السياسية، والتأثير في القضايا الدولية الحساسة بشكل مباشر، ووصل الحد بأمريكا في هذه المرحلة التي أعقبت تفكك حلف وارسو إلى حد جر العالم أجمع خلفها، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، في حسم الصراعات الدولية أو الإقليمية؛ كما جرى في مناطق عديدة في العالم، مثل العراق وأفغانستان وصربيا وكوريا، وغيرها... ولم يقف الأمر عند حد الدول الضعيفة بل تجاوز صلف أمريكا وعنجهيتها الدول الضعيفة إلى الدول الكبرى العملاقة، مثل الصين وروسيا في فرض اتفاقات عسكرية وسياسية بشروط مذلة، مثل مسألة الصواريخ وتدمير قسم من الرؤوس النووية، ومسألة تايوان في بحر الصين الجنوبي...
لقد ساعد أمريكا في فرض هذه الهيمنة وشبه التفرد قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، واتساع مناطق نفوذها السياسي وكثرة عملائها. لقد بلغ الظلم والغطرسة السياسية والعسكرية والاقتصادية مداه في العالم، ما حدا بالكثير من الدول الكبرى للتململ والتظلم، خاصة في مسألة الهيمنة الاقتصادية والتحكمات في الأسواق والسلع الحيوية مثل البترول.
وقبل أن نذكر طريقة التعبير عن التظلم، والسعي لرفع هذا الظلم العالمي الذي تفرضه أمريكا على العالم، نريد أن نقف قليلا عند بعض القضايا الدولية بعد مرحلة الاتحاد السوفيتي التي افتعلتها أمريكا أو سخرتها، وأجبرت الدول الكبرى عليها؛ لإبقاء السيطرة والهيمنة السياسية، وإبقاء سياسة التفرد أو الهيمنة العالمية، وتكريس جذورها عالميا، وفي الوقت نفسه محاربة من يريد التفلت من هذه الهيمنة ومحاربته بكل الوسائل المتاحة لديها.
1- العمل على بقاء هيمنة الدولار الأمريكي؛ باعتباره العملة الرئيسة في العالم، وإجبار دول العالم على اعتباره غطاء لكل العملات، وأداة التبادل التجاري الرئيسة، وخاصة في أسعار البترول والعقود مع الشركات.
2- محاربة التقارب بين الدول والاتحادات، خاصة الوحدة الأوروبية، والتعاون بين روسيا والصين أو كوريا الشمالية والصين.
3- فرض الهيمنة الاقتصادية العالمية على السلع الحيوية، ومحاولة احتكار الأسواق العالمية، خاصة أسواق البترول والإلكترونيات والصناعات الطبية والأدوية.
4- الوقوف في وجه الشعوب الساعية للانعتاق من ربقة العبودية التي فرضها حكامها عملاء أمريكا في كثير من دول العالم خاصة في المناطق الإسلامية.
5- وضع قواعد عسكرية ونشرها في كثير من مناطق العالم، سواء في مناطق الدول الكبرى أو الدول الضعيفة، مثل نشر منظومات صاروخية في دول أوروبا، وقواعد عسكرية في الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي.
6- افتعال أزمات اقتصادية عالمية، وضرب الأسواق المالية، عن طريق عملائها وشركاتها العملاقة هنا وهناك؛ من أجل تدمير اقتصاديات الدول، وجعلها تدور في أوضاع كارثية تُلجئها للمساعدة ومدّ يد العون.
7- القيام بأعمال البلطجة، وجر العالم خلفها في حروب تخدم مصلحتها السياسية، كما جرى في حرب أفغانستان والعراق.
8- القيام بفرض العقوبات الاقتصادية على الدول المعاكسة لسياساتها ظاهرا أو حقيقة، وذلك كما فعلت مع إيران سابقا وحاليا، وكما فعلت أيضا مع كوريا الشمالية، وكما تريد أن تفعل هذه الأيام مع روسيا بسبب تمردها على سطوتها السياسية في أوكرانيا.
هذه نماذج من أعمال أمريكا التي تحاول من خلالها إبقاء السطوة السياسية، وإبقاء هيمنتها على العالم، وفي الوقت نفسه محاولة منع أي صعود أو تمرد على هذه الهيمنة السياسية. فهل خضعت الدول الكبرى لهذه السياسات، وحنت ظهرها لأمريكا لتتخذ منها ركوبا وحاملا لأوزارها الاقتصادية والسياسية؟ أم أن العالم قد بدأ يتململ تجاه هذه السياسات القسرية والقهرية التسلطية والاستعبادية أحيانا؟
يتبع...
رأيك في الموضوع