اعتبر السياسيون والمعلقون والقادة في أمريكا بالإجماع تقريباً أن حدث 6 كانون الثاني/يناير 2021 هو هجوم عميق ومنظم على الديمقراطية. وكان بايدن قد عبر في خطاب تسلمه منصب الرئيس في أمريكا عن حالة الاتحاد الأمريكي بقوله "اليوم أنصب رئيسا لدولة يمزقها الألم والانقسام والتوتر" وقال "إن ما جرى يوم 6/1/2021 هو هجوم ساحق على الديمقراطية" و"أننا مصممون على الحفاظ على ديمقراطية بنيناها منذ أكثر من 200 عام".
فهل الديمقراطية حقا آمنة وبصحة جيدة؟ أم أنها تتلاشى كنسيج شكل المجتمع الأمريكي خلال القرنين الماضيين؟
للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى فهم جوهر الديمقراطية وصعودها كجزء لا يتجزأ من أيديولوجية ظهرت بعد هزيمة الكنيسة النصرانية في عملية ثورية وتطورية طويلة في أوروبا في العصور الوسطى. أدت الثورة الفرنسية وتحول أوروبا من احتكار نصراني إلى انقسام بين الكنيسة والدولة إلى نشوء أربعة جوانب أساسية من الحرية، والتي تتجلى في حرية التعبير وحرية الملكية والحرية الشخصية وحرية العبادة. سمحت حرية الحياة الشخصية والعبادة للكنيسة بقبول الهزيمة بهدوء، والرضا عن الأفراد الذين يزورون الكنيسة، ودفع مستحقات العضوية من أجل الحفاظ على عمليات رجال الدين المتعلقة بالحفاظ على الكنيسة.
أما حرية التعبير فقد ولدت مفاهيم الديمقراطية الحديثة، حيث يتمتع الناس بحرية انتخاب ممثليهم، والذين يجب أن يكونوا أيضاً أحراراً في التشريع والحكم والحفاظ على الدولة. في جوهرها، أدت حرية التعبير إلى نشوء الديمقراطية كنظام حكم وقواعد حكم المجتمعات. وبالمثل، ولدت حرية الملكية مفاهيم الرأسمالية التي شكلت في نهاية المطاف نظام الاقتصاد والمال للمجتمع.
لكن المفارقة هي أن الديمقراطية والرأسمالية تحولتا إلى أفكار متعارضة ومتناقضة، وتحملان بطبيعتهما بذور الصدام بينهما. كانت الرأسمالية التي تغذيها الملكية الفردية للممتلكات، وتحكمها نظرية الندرة النسبية، لا بد أن تنتج ويتولد عنها أصحاب الثراء الفاحش، والذين تمكنوا من انتزاع الموارد بشكل أسرع، في وقت أبكر من الآخرين، وبكميات أكبر. ما أدى إلى ظهور أكبر فجوة شهدها التاريخ بين 1٪ من الناس يمتلكون أكثر من 70٪ من إجمالي الثروة في البلاد مقابل طبقة من الفقراء والجياع يعملون ليل نهار في خدمة شركات ومؤسسات الأثرياء من أجل لقمة عيش. وتمكن أقل من 1٪ من كبار الأثرياء وأصحاب الشركات الكبرى من امتلاك أدوات ووسائل التأثير والسيطرة مثل الإعلام والنوادي الخاصة والصناعات الرئيسية وما شابه.
فأصبحت هذه المجموعة الصغيرة جداً تملك وتستحوذ على معظم الأدوات والوسائل والتي تمكنهم من التأثير على حرية التعبير وتوجيهها وأحياناً إخضاعها لـ99٪ من الناس. وبالتالي، أصبحت حرية التعبير كمفهوم عدواً أساسياً لحرية الملكية وما نتج عنها من طبقة تتحكم في مفاصل الحياة في أمريكا وغيرها من الدول التي تطبق مبدأ فصل الدين عن الحياة وتتبنى ما ينتج عنه من أنظمة، والتي حرمت الجماهير العظيمة من حقوقها الأساسية في العيش والازدهار والحرية كما هو مفترض من المبدأ الرأسمالي الديمقراطي. في الوقت نفسه، أصبحت حرية الملكية والطبقة فائقة الثراء المتولدة عنها عدواً أساسياً لحرية التعبير.
في الجوهر، تحولت الأفكار الرئيسية لمجتمعات الديمقراطية الرأسمالية الجديدة إلى قوى متعارضة تقيم في صندوق واحد، يسمى المجتمع. ويشبه هذا الوضع الظاهرة الطبيعية والتي تشاهد داخل نواة الذرة في العناصر الطبيعية. حيث تعتبر البروتونات قوى متعارضة في شحناتها، ولكنها مجبرة على التواجد داخل حدود نواة الذرة، والتعايش معاً من خلال قوة خارجية ضخمة غير عادية، والتي كانت وما زالت تنذر بانفجار هائل قد يحدث في أي وقت.
وعلى الشكل نفسه، كان لا بد من وجود الديمقراطية والرأسمالية في الصندوق نفسه بالرغم من التناقض الطبيعي بينهما. فكان لا بد من وجود قوة غير عادية من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع والاتحاد الأمريكي تحديدا بالرغم من التناقض الواضح والصريح لمكونات المجتمع الأساسية. ومضت هذه القوى والتي أصبحت تسمى فيما بعد الدولة العميقة أو القوى ذات التأثير أو ممثلي الشركات العملاقة أو فئة الواسب (البيض الأنجلوسكسون البروتستنت) تعمل بإحكام ومهارة للمحافظة على المجتمع ووحدة الاتحاد، والتأكد من عدم حدوث انفجار شبيه بالانفجار النووي. فعلى غرار القوى الخفية الوهمية التي تحافظ على وحدة واستقرار الذرة، كانت القوى التي تحافظ على سلامة واستقرار مجتمع (الرأسمالية-الديمقراطية) قوية وخفية ومتسقة.
من الناحية الفنية، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن القوة النووية الوهمية قابلة للكسر، وأن الانفجارات النووية حقيقة واقعة. وبالمثل، يمكن إخفاق القوى التي تمكنت دائما من الحفاظ على تناقض المد والجزر داخل المجتمع في أمريكا. نعم إنه من الممكن إجبار التناقض بين الأفكار المتعارضة على الوجود معا، لكنها أيضاً عرضة للانفصال والانقسام بل الانفجار، وذلك حين تفقد الغراء الذي يبقيها ملتصقة معاً. ولا بد أن نلاحظ أنه من الضروري الحفاظ على القوة الخارجية وباستمرار للحفاظ على الاستقرار داخل مجتمع يتشكل من أفكار متعارضة لأنه بدون ذلك فإن الانقسام والتوتر والانفجار هو النتيجة الطبيعية والتي عبر عنها بايدن في خطاب الرئاسة الأول.
لقد تمكنت أمريكا من الحفاظ على القوى الخارجية طوال الوقت للحفاظ على استقرار اتحاد تم بناؤه بأفكار متناقضة ومتعارضة ممثلة على السطح بالديمقراطية والرأسمالية، ومتجذرة في عقيدة حرية التعبير وحرية الملكية. لقد اعتمدت عملية المحافظة على وحدة الاتحاد الفيدرالي الأمريكي على قبضة قوية متمثلة بأصحاب النفوذ وما تم التعارف عليه بأنسجة الدولة العميقة من خلال قوة أصحاب النفوذ وامتلاكهم الأدوات المناسبة، والتي استخدمت بشكل فعال الظروف الخارجية للنظام العالمي والسياسة العالمية. لقد تجذر في ثقافة القوى المؤثرة الأمريكية أن محاربة عدو خارجي هي الطريقة الأكثر فاعلية للحفاظ على اتحاد مستقر لأمريكا. ولطالما تحدث المؤرخون في أمريكا عن استخدام أمريكا للحروب الخارجية سواء الساخنة منها كالحرب العالمية الثانية، وحرب كوريا وفيتنام والخليح، أو الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي سابقا.
واليوم، تبحث أمريكا بلا هوادة عن عدو يمكنها الاشتباك معه لمدة عقدين إلى ثلاثة عقود أو أكثر. والخيارات محدودة ولكنها ليست مفقودة تماماً وتتمثل بالإسلام أو الصين أو روسيا أو خيارات جديدة لم نشهدها من قبل. فنحن اليوم نشهد ولأول مرة منذ 150 عاما ألسنة لهب أولية تنذر بتكسير الصندوق الذي كان يحوي في يوم من الأيام جميع القوى المتعارضة، ولا يمكن أن يكون هذا الانفجار أقل من انفجار نووي بمجرد أن تبدأ البروتونات في الانفصال عن نواة الذرة. فالانقسامات يمكن أن تكون مدمرة، بل يمكن أن تكون مدمرة بشكل كارثي كما عبر عن ذلك رئيس أمريكا بايدن. ويتطلب احتواء الانفجار المحتمل قوة أكبر بكثير من ذي قبل.
فهل تستطيع أمريكا أن تثبت مرة أخرى قدرتها على احتواء ثورة في طور التكوين؟ علينا أن نراقب بعناية وأن نكون في حالة تأهب.
رأيك في الموضوع