بعد أن فتح المسلمون بلاد الروم من أرض الشام، وفتحوا مركز الكنيسة الشرقية الأول في مدينة القدس في عهد الفاروق رضي الله عنه، ظل الحقد النصراني مكبوتا في صدورهم، يتحينون الفرصة للانقضاض على بلاد المسلمين؛ وخاصة الشام، ومنها بيت المقدس. وقد استغل النصارى بعض الظروف والأجواء التي سادت في العصور الوسطى داخل أوروبا وفي بلاد المسلمين، ليتخذوا منها المحرك والدافع لهذه الحروب.
والحقيقة أنه رغم تعدد الأسباب التي دفعت الصليبيين نحو هذه الحروب لبلاد الإسلام فإن السبب الرئيس والفاعل لهذه الحروب هو ما شهد به رب العزة حيث قال: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾. وقال تعالى: ﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾.
فالحقد على الإسلام وأهله؛ هو الدافع الأول، والمحرك الحقيقي لهذه الحروب الشريرة، وقد كان هذا واضحا جليا في خطاب البابا أوربان الثاني، أشهر من قام على الحملة الصليبية الأولى؛ حيث جاء في أحد خطاباته للنصارى: (طهروا قلوبكم إذن من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض "من ذلك الجنس الخبيث"، وتملكوها أنتم...). وأما الأسباب والدوافع الأخرى التي يذكرها المؤرخون فإنها دون هذا السبب بكثير، ويمكن إجمالها في نوعين من الدوافع: (خارجية وداخلية)، يتفرع عن كل منها أمور. أما الدوافع الداخلية فهي بإيجاز شديد:
1- الصراعات التي سادت أوروبا، وسبقت الحملة الصليبية الأولى نحو بلاد المشرق (1095-1202م)؛ وهذه الصراعات تمثلت في صراعات دينية بين طوائف النصارى وأخرى سياسية. أما الدينية: فما جرى من حروب طائفية بين طوائف النصارى وذهب نتيجتها آلاف الضحايا. وأما السياسية فقد حصلت بين الملوك الأوروبيين، وحصلت كذلك بين العسكريين المتصارعين، والمتنافسين على تقسيم البلاد من جهة، وبينهم وبين الملوك من جهة ثانية، وتحول الأوروبيون إلى الشكل العسكري، حتى صارت صورة الشخص النبيل العظيم هي صورة الفارس المقاتل. وقد تشكلت أوروبا بناء على هذا الصراع السياسي والطائفي؛ فقسمت إلى إقطاعيات متناحرة فيما بينها، وفيما بينها وبين إقطاعيات أخرى. وصارت الفوضى هي الطابع العام في هذه الممالك المتناحرة. وفي بعض البلاد فقد الملك السيطرة الكاملة على البلاد كما حصل في فرنسا؛ حيث فقد ملكها السيطرة كلية على البلاد في عهد أسرة الكارونجيين 987م، وصار الحكم فيها لأمراء الإقطاعيات، وكان الملك عبارة عن صورة فقط دون أي نفوذ سياسي، وتفتَّتت الدولة إلى إمارات متعددة، كلٌّ منها له جيشه الخاص؛ لذلك كان التفكير في صرف أنظار المتصارعين والمتناحرين إلى مكان آخر؛ للتخلص من هذه الصراعات، فكان التفكير في حروب خارج البلاد تصرف هؤلاء العسكريين.
2- الرغبة عند بعض البابوات وملوك أوروبا بتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية، وإنهاء حالة الصراع بينهما؛ حيث شهد سنوات من الاقتتال والتشرذم بدأت سنة 1054م بين الشرق الإغريقي والغرب اللاتيني، أو ما يعرف بانقسام الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة الشرقية الأرثوذكسية؛ فطمعت روما عن طريق الحروب ضد بلاد الإسلام في توحيد الكنيستين، تماما كم طمعت في توحيد الممالك الأوروبية من قبل.
3- الأسباب الدينية الصليبية: والأسباب الدينية التي تتعلق بالحروب الصليبية منها ما يتعلق بالداخل الأوروبي في مسألة التكفير عن الخطايا والآثام، وخاصة ممن أفسدوا الكنيسة من بعض القساوسة والرهبان؛ وذلك بالجهاد لتخليص النصارى والأماكن الدينية، ومنها ما يتعلق بتأمين طريق الحجيج النصارى، وأماكن الحج في القدس. ومنها أيضا الثأر لقتلى النصارى ضد المسلمين خاصة السلاجقة الأتراك بعد معركة ملاذ كرد، 463هـ/1071م؛ والتي كانت حدثا مشهودا في تأديب الصليبيين، وردعهم عن بلاد الإسلام لسنوات طويلة. وذهب في هذه المعركة الآلاف من فرسان الكنيسة الشرقية ورجالاتها؛ ما دعاهم للاستنجاد بالكنيسة الغربية رغم حالة الانقسام والتشرذم.
4- الأسباب الاقتصادية: وتتعلق بأطماع الفرسان والملوك في السيطرة على أماكن جديدة في البلاد الإسلامية تكون مصدرا للأموال في دعم ممالك أوروبا. وقد عاشت أوروبا في تلك الفترة ظروفا اقتصادية صعبة، بسبب الاقتتال والفتن وسيطرة رجال الدين والكنيسة، وكذلك بسبب الأمراض الفتاكة التي اجتاحت أوروبا، فأخذ البابوات والملوك يشجعون الفرسان على الاستعداد لفتح مناطق جديدة تكون نهبا للثروات.
لقد استغل النصارى الصليبيون حالة التفكك والتشرذم والاقتتال التي سادت بلاد الإسلام في تلك الفترة خاصة الفترة التي تلت موت الأسد الباسل ألب أرسلان، حاكم ولاية السلاجقة الأتراك ومؤدب الصليبيين في ملاذ كرد. في هذا الوقت كانت جحافل النصارى وممالكهم تتحد ضد الإسلام للحملة الصليبية الأولى. ورافق هذا الأمر ما كان يحدث فيما يسمى بحروب الاسترداد في الأندلس وما أصاب الولايات الإسلامية من تفكك وتشرذم هناك.
لقد بدأت أولى الحملات الصليبية على بلاد الإسلام، واجتمعت كلمة النصارى على ذلك واتحدت الصفوف رغم الخصومات والمنازعات الطائفية والسياسية. فقد وجه الإمبراطور ألكسيوس الأول نداء استغاثة إلى الكنيسة الغربية في روما بعد معركة ملاذ كرد؛ فلبى النداء البابا أوربان الثاني، وعقد مؤتمرا للمجمع الكنسي في مدينة كليرمونت سنة 1095م؛ دعا فيه إلى تحرير الأماكن المقدسة من المسلمين، وحث المحاربين إلى رحلة الغفران الكبير. وكان البابا أوربان يطمع بتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية تحت لواء الفاتيكان في روما. وهذا ما حصل بالفعل حيث توجه الصليبيون في وحدة واحدة نحو آسيا الصغرى، وجرت بينهم وبين السلاجقة معارك عدة انهزم فيها الصليبيون في البداية، ثم عاودوا ورتبوا صفوفهم، واستغلوا حالة التفكك التي أصابت السلاجقة فهزموهم في معركة ضورليم سنة 1097م ثم اتجهت الغزوات الصليبية من القسطنطينية نحو أنطاكيا والساحل الشامي سنة 1098م فاحتلوها، ثُمَّ زحفوا على بيت المقدس، واحتلُوها في شهر تمُّوز/يوليو 1099م، بعد حصار استمر عشرة أيام تقريبا بقيادة القائد الصليبي الفرنسي جودفري؛ دمروا خلالها معظم أرجاء المدينة في قصف همجي؛ لم يسلم منه شيء حتى أماكن العبادة للنصارى. وقد أحدثوا فيها مذبحة رهيبة استهدفت العزل من النساء والأطفال والشيوخ وجميع من بالمدينة، واستحلوها عدة أيام، وعاثوا فيها فسادا وإفسادا. ولم يسلم من هذه المذبحة الرهيبة حتى سكانها من النصارى واليهود كما ذكر المؤرخون. وفي هذا تكذيب لفكرة الدعوة لإنقاذ النصارى من شرور المسلمين، وإنقاذ الأماكن المقدسة؛ حيث كان النصارى أكثر أمنا وطمأنينة بين المسلمين.
لقد كان اغتصاب بيت المقدس، وخاصة المسجد الأقصى المبارك المحرك الذي حرك المسلمين في الأرض نحو الاتحاد في وجه هؤلاء الصليبيين؛ لتخليص أولى القبلتين وثالث المسجدين من براثنهم. وظل الجهاد مستمرا طوال فترة احتلاله، لم يهدأ لحظة واحدة، حتى توج أخيرا بالانتصار الكبير الذي حققه آل زنكي والأيوبيون في معركة حطين عام 1187م؛ حيث مهدت الطريق نحو تحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك.
وهنا لا بد أن نقف عند بعض الأمور المهمة في مسألة اغتصاب المسجد الأقصى وما حوله من بيت المقدس، وتحريره بعد ذلك على يد القادة العظام سواء في مرحلة الغزو الصليبي، أو بعدهم في عهد الغزو المغولي.
وهذا ما سنذكره بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.
رأيك في الموضوع