منذ أشهر وأخبار السعودية تتصدر وسائل الإعلام المحلية، والإقليمية والعالمية ويكاد لا يمر يوم إلا وتطل علينا الصحف بمقال له علاقة بسياسة السعودية الداخلية أو الخارجية.
فبموت الملك عبد الله بن عبد العزيز وقبل مراسم الدفن وبتولي الملك سلمان الحكم بدأت تصدر الأوامر الملكية بالعشرات لتبين لنا طبيعة المرحلة القادمة والسياسات التي ستتبع في السعودية، البلد الذي فيه أطهر بقعتين على الأرض مكة المكرمة والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأكبر دولة مصدرة للنفط في العالم بمعدل عشرة ملايين برميل يوميا.
فقد عمل الملك سلمان في السويعات الأولى من حكمه وقبل دفن أخيه عبد الله بترسيخ قواعد الحكم والتي كادت أن تنهار بالنسبة للمعارضين لسياسة الملك عبد الله من الأمراء والذين كان عندهم تحفظ على توليه الحكم بعد فهد. واتخذ قرارات حاسمة لتعيد دفة حكم آل سعود كما يتمناه الإخوة أبناء الأم السديرية (فهد، وعبد الرحمن، وسلطان، ونايف وسلمان) وقد كانت ولاءات من توفي منهم ومن بقي للأمريكان، على عكس عبد الله الأخ غير الشقيق والذي أعطى ولاءه للإنجليز هو وأبناؤه، لذلك سعى لأن يجعل للإنجليز قدماً في الحكم من بعده بتعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز وليا لولي العهد (وأن أحدا لا يستطيع عزله من منصبة كائنا من يكون، وأن يكون الملك بعد سلمان) هكذا كان نص القرار الملكي، فالأمير مقرن هو مدير الاستخبارات العامة السابق وهو طيار وتلقى دراسته في بريطانيا وجزء منها في أمريكا، وهو ابن جارية يمنية كانت في القصر.
ولذلك عمل سلمان في أول قراراته على أن يبقي ولي العهد الأمير مقرن كما قرر الملك عبد الله، لكنه أقدم على خطوة جديدة بتعيين أحد أمراء الجيل الثاني من أبناء عبد العزيز، الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية، والذي نال رضا أسياده الأمريكان بزيارتين قام بهما في العام الماضي واستقبل استقبالا حافلا من أوباما ومعظم القطاعات السياسية والأمنية وليحظى بلقب قيصر الحرب على الإرهاب كما لقبته النيويورك تايمز في عددها بتاريخ 01/05/2015، ورأت فيه ملك المستقبل، كما صدرت مجموعة من القرارات بعد دفن عبد الله بأيام، كإسناد وزارة الدفاع لابن سلمان محمد ليكون مهيمنا على أحد أقوى مفاصل الدولة، كما عين رئيساً للديوان الملكي ومستشاراً خاصاً للملك. ومن أهم القرارات إعفاء أبناء الملك عبد الله من مناصبهم الحساسة إلا وزير الحرس الوطني الأمير متعب عميل الإنجليز (والذي أشار عليه بعض مستشاريه بالتقرب من الأمريكان، ليحظى برضاهم فيكون له شأن بعد والده) كما تم إعفاء رجالات عبد الله المتحكمين في مفاصل الدولة مثل خالد التويجري رئيس الديوان الملكي ورجل الإنجليز الأقوى في حكم عبد الله، والذي كان على خلاف دائم مع الأمراء، كما طال التغيير في البدايات رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آل الشيخ والذي كان مشهورا بأفكاره العلمانية الغريبة عن المجتمع، وكذلك العلماني مدير جامعة الإمام بالرياض أبا لخيل والذي عينه عبد الله قبل وفاته بفترة ليست بالطويلة وزيرا للأوقاف، وبالتعديلين الأخيرين نال سلمان ثقة شيوخ الدين وشعبية كثير من الناس الذين ساءتهم تغييرات عبد الله والتي سارعت في طريق التغريب، وتهميش دور الهيئة.
ولما دقت حرب اليمن طبولها وبدأت العملية العسكرية وقد أُعلن عنها من أمريكا وعلى لسان عادل جبير السفير السعودي في أمريكا ذلك الوقت، وبرز خلال الحرب كيف أن آل سعود يقودون حربا بالوكالة عن أمريكا تنفيذا لمخططاتها وعملا لخطتها القديمة بتقسيم اليمن، حيث كان ذلك واضحا وجليا من خلال التصريحات الأمريكية والسعودية، وسطع نجم وليِّ وليِّ العهد محمد بن نايف وزير الداخلية وكذلك وزير الدفاع محمد بن سلمان بتصدرهما للإعلام، ووجودهما على الحدود السعودية اليمنية، وفي الوقت نفسه فقد غيب الإعلام ولي العهد والذي لم تعهد له أية مهام منذ توليه ولاية العهد.
وبإعلان السعودية إنهاء "عاصفة الحزم" وبدء "إعادة الأمل"، مع أن عموم أبناء البلاد لم يعوا ما حدث، حيث إن الإعلام كله من طرف واحد (العميد العسيري)، وتتقاطع مصالح الأمريكان والإنجليز فيتفق الإعلام (قناة الجزيرة والعربية وغيرهما) ويخرج علينا عادل جبير مرة أخرى في لقاء مع محطة السي إن إن لينفي أن تكون هذه الحرب بين السنة والشيعة كما تشدق بها علماء السلطان وخطبوا جمعهم وباركوا الحرب، وكسبوا تعاطف وولاء الناس على هذا الأساس، ليعلن أن الهدف الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع جميع الأطراف، حتى الأعداء على حد تعبيرهم.
ومع بداية "إعادة الأمل" أراد الأمريكان أن تستقر الأمور لهم في السعودية، وأن يقطعوا الشك باليقين، وبدا للناس أن هذه هي مكافأة الذين قادوا الحرب ودافعوا عن البلاد، فصدرت عشرات الأوامر الملكية في منتصف الليل وقبل صلاة الفجر يوم ٢٨/٤/٢٠١٥، حيث تم تنحية ولي العهد مقرن بن عبد العزيز عميل الإنجليز ليحل محله محمد بن نايف وليا للعهد وكذلك تعيين محمد بن سلمان وليا لولي العهد، وبذلك تكون أمريكا ضمنت الملك لها للمستقبل، لكن الله لهم بالمرصاد، وعمد الملك سلمان على أن تؤخذ البيعة للأميرين من الجميع حتى من المخلوع ليظهر أنه لا خلاف في العائلة وأن ذلك تم بموافقة الجميع.
ورغم أن أمر البيعة لولي العهد أو ولي ولي العهد هو بدعة وضلالة، لكننا رأينا من نادى لها على المنابر وحاول أن يجد لها مخرجا شرعيا بل اعتبرها واجبة من باب طاعة ولي الأمر إذا كان ذلك سيؤدي للاستقرار والأمان...
وتوالت القرارات الملكية بتنحية سعود الفيصل وزير الخارجية والذي حافظ على منصبه حوالي أربعة عقود، وهو رجل يعاني من كثير من الأمراض، ووقع الاختيار في هذا المنصب الحساس على عادل جبير والذي تربى وترعرع في البيت الأمريكي وقضى أكثر من نصف عمره في أحضانهم وتعلم من أستاذه بندر بن سلطان الولاء للأمريكان.
ومن التغييرات التي كانت مستغربة تعيين المهندس خالد الفالح مدير شركة أرامكو أكبر شركة نفط في العالم وزيرا للصحة وقد كان مرشحا ليكون رئيسا لمجلس الإدارة في أرامكو، وحيث إن وزارة الصحة تعاقب عليها عدد من الوزراء خلال السنة الماضية وهذه السنة، حيث إن الفساد كبير ولا يكاد يخفى لأن في الوزارة تعامل مباشر مع الناس، وأمور يعاني منها الناس يوميا، لذلك أصبحوا يختارون لها أناساً من خارج المجال ليديروا شئون الوزارة ظنا منهم أن الفساد في شخص الوزير.
يوم السبت ٢/٥/٢٠١٥ تكشفت بعض الأمور المتعلقة بشركة أرامكو جعلت من إبعاد الفالح من الشركة كاملا، حيث إنه تم فصل وزارة البترول من أرامكو، لتصبح أرامكو شركة حكومية مستقلة وتم تشكيل مجلس أعلى جديد لها برئاسة محمد بن سلمان ولي ولي العهد، وهذا يجعل أموال النفط كلها بيده، يأخذ منها ما يشاء من غير رقيب أو حسيب.
وفي النهاية بقيت قضية واحدة ظهرت في حرب اليمن وقبل إعلان إنهاء عاصفة الحزم بيومين، حيث إن الحرس الوطني برئاسة الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز لم يشترك في العمليات القتالية، وقد كان ذلك مستغربا، حيث إن الحرس مجهز بكل الأسلحة الثقيلة والطائرات، وكان أول من اشترك في حرب الخليج مع العراق سنة ١٩٩١ ووصل إلى الجبهة آنذاك قبل الجيش بستة أيام.
أعلن الملك بعدها أن الحرس الوطني سوف يتم إشراكه في العمليات على الحدود، وتردد في وسائل الإعلام أن الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة جميعها، مما يعني أن لا خصوصية للحرس الوطني كما كان الأمر في زمان عبد الله، وهذا يسير وفق ما فهم من بعض تصريحات محمد بن سلمان وزير الدفاع وولي ولي العهد من ضم الحرس الوطني والجيش تحت قيادة واحدة، مما يعني إلغاء وزارة الحرس الوطني وإبعاد متعب من آخر معاقل الإنجليز في السلطة.
هذه هي أبرز ملامح التغييرات الجذرية في عهد سلمان والتي شكلت انقلابا أمريكيا على آثار بريطانيا في السياسة السعودية وقد حصلت هذه التغييرات بسرعة هائلة ما يدل على أهمية السعودية بالنسبة لأمريكا وعلى شدة الأذى الذي تعرضت له في عهد عبد الله، وهذا يبين بشكل كبير مدى الصراع الغربي على بلاد المسلمين ومقدراتهم، والذي لن تقطعه من جذوره إلا يد خليفة راشد يحكم المسلمين جميعا بشرع الله على منهاج نبيه عليه وآله الصلاة والسلام، نسأل الله أن تكون بيعته قريبة..
رأيك في الموضوع