وما هي إلا ساعات قليلة من إعلان وفاة أخيه وقبل انتظار دفنه، فدَفَنَ سياسته ورجاله قبل أن يدفنه، حيث عزل التويجري رجل عبد الله والإنجليز المفضل، ونحى أبناء عبد الله جانبًا بالعزل أو التهميش، وأعلن محمد بن نايف خيار أمريكا المفضل في الجيل الجديد وليًا لولي العهد، أي زعيم الجيل الجديد وملك المستقبل المفترض.
وقد قطع أوباما زيارته للهند وتوجه للسعودية على رأس وفد رفيع المستوى ليبارك لعملاء أمريكا تولي الأمور في بلاد الحرمين الشريفين، وقد رتبت الإدارة الأمريكية الأمور منذ فترة ليست بالقصيرة حيث توالت زيارات محمد بن نايف إلى أمريكا، وفي زيارته الأخيرة والشهيرة في كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٤ التقى محمد بن نايف بمعظم القوى الأمنية والسياسية وأصحاب القرار في أمريكا، وكأنه اختبار لرجل أمريكا الأقوى في السعودية بل في الخليج والمرشح الأقوى ليكون ملك المستقبل بعد سلمان بن عبد العزيز.
وكان من أهم التغييرات التي عملها الملك سلمان هو تأسيس مجلسين للتحكم في البلاد أمنيًا واقتصاديًا، مجلس الشؤون السياسية والأمنية برئاسة الأمير محمد بن نايف، وكذلك مجلس الشؤون الاقتصادية برئاسة ابن سلمان محمد، وحتى يمكّن لابنه جعله أيضًا عضوا في مجلس الشؤون السياسية والأمنية.
وفي أول خطاب مقتضب له كملك أدلى به حتى قبل دفن أخيه، أوضح سلمان حرصه على "الاستمرارية" فقال في الخطاب الذي بثته القناة الرسمية: "سنظل بحول الله وقوته متمسكين بالنهج القويم، الذي سارت عليه هذه الدولة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبد العزيز - رحمه الله - وعلى أيدي أبنائه من بعده"، ولكن لا أحد يعلم أي الإخوة يقصد وعن أي نهج يتحدث، ولكنه حتمًا ليس نهج الملك عبد الله خادم الإنجليز ومؤذي أسياد سلمان الأمريكان..
بعد ذلك تتابعت التغييرات في الوزارات ومجلس الشورى والعلماء المقربين بشكل كبير، وتتالت أيضا الزيارات المكوكية للرؤساء والوزراء والساسة، بشكل أكبر وبسرعة هائلة، فتوجه للسعودية تميم قطر وعبد الله الأردن وسيسي مصر وأردوغان تركيا، فيما توجه محمد بن نايف إلى قطر وبريطانيا...
فأراد سلمان للسعودية أن تحافظ على دورها الريادي في الخليج وأن تبقى ذات مرجعية في الخلافات والقرارات.
وقد غاب عن كلام سلمان ذكر الاتحاد الخليجي الذي اقترحه الملك عبد الله والذي تغنى به كثيرًا ولم يلق رواجًا عند الجميع، وكأنه وُئد في مهده.
وفي مؤتمر "مكافحة الإرهاب" والذي انعقد في مكة المكرمة أكد الملك في الكلمة التي ألقاها عنه خالد بن فيصل على المنهج الذي سار عليه عبد الله في محاربة "الإرهاب".
أما أبرز ملامح الدور السعودي الجديد فقد تجلت في المكانة المحورية التي ترسم لها في أبرز قضايا المنطقة الساخنة:
ففي اليمن: التزمت السعودية الصمت في بادئ الأمر وأثناء غزو صنعاء من قبل الحوثيين، ثم علا صوتها ضد الحوثيين، وأصبحت مهاجمتهم ووصفهم بالإرهابيين على كل لسان، حتى إن بعض الأخبار تحدثت عن أن السعودية كان لها دور في تهريب الرئيس اليمني هادي من صنعاء إلى عدن، وهي التي أعادت فتح سفارتها بعدن وتبعتها دول الخليج بعد ذلك.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ما زالت سياسة المملكة من الحوثيين كما هي؟ أم أن هناك اتفاقا سرياً تكون السعودية طرفا فيه للخروج من هذه الأزمة؟
وفي مصر: توقع الجميع أن تكون العلاقة مع السيسي وحكومته فاترة، وأن يخف الدعم عنهم، وأن تتراجع الاستثمارات السعودية في مصر، لاعتقاد البعض أن سلمان يدعم الإخوان ومرسي، إلا أن زيارة السيسي للسعودية والتنسيق الأمني معها في ما يسمى الحرب ضد "الإرهاب" دعا كثيراً من المحللين توقّع تحسن العلاقات ومتانتها بين السعودية ومصر، وما زالت السعودية تدعم مواقف السيسي وتقدم الدعم المادي له ولم نسمع عكس ذلك.
أما الموقف بالنسبة لسوريا والثورة السورية المباركة: فقد فتر الدعم المادي والمعنوي وكثير من المشايخ أصبحوا يهاجمون الثورات ويذكرون الويلات التي جرّتها عليهم، وقد أغرقت السعودية كثيراً من الحركات المقاتلة في سوريا بالمال السياسي لكي تحرف الثورة وتخرجها عن مسارها الصحيح.
وكذلك التغيير العالمي الذي لوحظ بعد تغير الحكم والذي تجلى أيضا بوضوح شديد بمسألة أسعار النفط حيث بدأت أسعاره بالارتفاع مباشرة بعد تغير النظام الحاكم..
بعد ذلك التغيير الجذري في سياسات السعودية لا يعود مستغربًا أن تصف بعض وسائل الإعلام ما جرى في السعودية بأنه "انقلاب"، ولا يعود مستغربًا أن نرى الفرحة العارمة على وجوه الأمريكان وأذنابهم، فلا نستغرب أن يقطع أوباما زيارته ولا أن يرسل عملاءه، ولا نستغرب مثلًا أن يهلل بان كي مون بأن "لقد أنجز الملك سلمان خلال 10 أيام أعمالًا يقوم بها الزعماء الجدد عادةً خلال مائة يوم" (الشرق الأوسط نقلا عن وزير البترول السعودي 26/02/2015).
إنه ليدمي القلب ويحير العقل، أن تصبح أرض بلاد الحرمين الشريفين كالكرة تتقاذفها أرجل الكفار من أمريكان وبريطانيين، وأن من يملك رأس الحربة فيها هو صاحب الحظ الأكبر في السيطرة على استراتيجياتها وتحركاتها والفوز بأموالها وقواتها وما حباها الله من خيرات..
إن على أبناء بلاد الحرمين الشريفين أن يوقفوا هذا العبث فورا، وأن لا يألوا جهدًا أو وقتًا لإعادة بلاد الحرمين لمكانتها الطبيعية، منطلقًا للرسالة السماوية الخالدة إلى العالم كافة..
رأيك في الموضوع