لقد شهدت هذه السنة لقاءات جمعت بين مسؤولين من السعودية وإيران - الخصمين اللدودين في منطقة الشرق الأوسط - أكثر من أي وقت مضى طوال السنوات الخمس الماضية، فخلال العام استضافت بغداد أربعة اجتماعات بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين، فيما عُقد لقاء خامس على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ما يشير إلى عودة الدفء إلى العلاقات المتوترة بين البلدين.
وكانت الرياض قد أعلنت قطع علاقاتها مع إيران عام 2016 على وقع تصاعد الأزمة بين البلدين إثر إعدام السلطات السعودية لرجل الدين الشيعي نمر النمر وما تلا ذلك من مهاجمة متظاهرين إيرانيين للسفارة والقنصلية السعوديتين في إيران. ومنذ ذلك الحين تصاعد التوتر بين السعودية وإيران وتزايدت حدة الخلافات بينهما في كافة القضايا الإقليمية خاصة في اليمن وسوريا ولبنان، لكن يبدو أن الفترة الماضية قد شهدت بعض التغيير في شكل العلاقة خاصة مع تصريح أعرب فيه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن أمله في أن "تؤدي المحادثات مع إيران إلى نتائج ملموسة لبناء الثقة وإحياء العلاقات الثنائية".
ولفهم حقيقة الصراع وطبيعة اللقاء يجب علينا إلقاء نظرة فاحصة على سياسة أمريكا في المنطقة، فنقول وبالله التوفيق: لقد أطلقت إدارة أوباما أكثر من أي إدارة أمريكية أخرى منذ الثورة الإيرانية يد إيران في البلدان المحيطة بها، فظهر ما بات يعرف بـ"الدور الإيراني" في اليمن وسوريا إضافة إلى العراق ولبنان وذلك لأسباب سياسية خاصة بإيران، وأسباب أخرى منها ضعف عملاء أمريكا في المنطقة وعدم تبعية بعض الدول لها، فكانت إيران الحل لحمل كافة الملفات في المنطقة وتقديمها بشكل كبير، وهذا ما دفع إدارة أوباما لحل مشكلة إيران والملف النووي، فدخلت إيران سوريا والعراق واليمن وتدخلت بالخليج ومنها السعودية فترة حكم عبد الله آل سعود وتمددت بشكل كبير جداً، وشكلت مضايقة لكيان يهود ودول المنطقة بإقرار أمريكي وضوء أخضر واضح وكبير، ولكن بعد دخول المنطقة الربيع العربي؛ وهو بمفهوم الغرب خطر (مبدئي واستراتيجي داهم) كان تحرك أمريكا بشكل كبير وسريع فأطلقت يد إيران في المنطقة بشكل كبير.
ورد في جواب سؤال أصدره أمير حزب التحرير العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة حفظه الله: "وأما الدوافع الجديدة والطارئة، فهي "الربيع العربي"، إذ وجدت أمريكا نفسها أمام مخاطر ومن نوع جديد، فقد اندلعت انتفاضات الربيع العربي في تونس واليمن ومصر وليبيا وسوريا على نحو مفاجئ، ولم تكن أمريكا جاهزة للدفاع عن نفوذها أمام هذه الثورات الشعبية التي هددت بالعصف بذلك النفوذ، ولا يمكن لأمريكا استقدام جيوشها للدفاع عن نفوذها نظراً لما بات يعانيه المجتمع الأمريكي من العقدة العراقية، وليس لها من القوى المحلية ما يدافع عن نفوذها بشكل كافٍ، فأهم عملائها في المنطقة مصر وسوريا قد صارا تحت نار الانتفاضة والثورة، لذلك فقد نمت في أمريكا سريعاً دوافع جديدة وطارئة بوجوب الاعتماد على إيران بشكل كبير، فاندفعت إيران تقمع الثورة في سوريا خاصة، وتزيد في إمدادات حزبها اللبناني لمنع الثورة من العصف بلبنان أيضاً بعد أحداث طرابلس وصيدا، وزادت من إمدادات أتباعها في البحرين واليمن لتحقيق النفوذ الأمريكي فيهما على حساب بريطانيا، كل ذلك على وقع الثورات. وبهذه الدوافع الأمريكية الجديدة فقد أصبح الدور الإيراني والذي اكتسى طابعاً طائفياً، رهيباً وكبيراً للغاية في المنطقة. وقد أدت تلك السياسة الأمريكية إلى ظهور التقارب الأمريكي الإيراني للعلن، فقد تحدثت وسائل الإعلام عن شحنات مالية أمريكية بالطائرة لإيران بعد الاتفاقية النووية، وعقود تجارية مع شركة بوينغ، وأن المسؤولين الأمريكان يجتمعون مع البنوك الأوروبية لتسهيل التعامل مع إيران، ورفع مخاوف تلك البنوك من العقوبات الأمريكية".
وبعد عودة السعودية لأحضان أمريكا وإخفاق إيران في بعض الملفات ومنها سوريا والاستقرار النسبي لعملاء أمريكا في المنطقة، كل هذا جعل التفكير الأمريكي يتنوع في استخدام الأدوات كلها وتنويع الأدوار وتوزيعها على عملائها، ولم تعد إيران وحدها التي يجب أن تحمل كافة الملفات ولم تعد بتلك المكانة التي كانت عليها بسبب تغير الظروف السياسية في المنطقة، حيث أصبحت في المنطقة قوى إقليمية كبرى منها السعودية ومصر وتركيا وإيران وكلها تحت القرار والنفوذ الأمريكي فاقتضت الظروف الجديدة تنويع المصادر وتعدد الأدوات والأدوار.
لذا كان أمر الصراع بين الأدوات وإن كان حقيقياً في بعض الملفات بين الدول؛ لكنه محكوم بأمور مهمة جداً منها عدم الصدام المباشر والعسكري بينها ولو علت نبرة الصوت وتأزمت بعض الأمور، ولو حصلت اشتباكات بين أدوات هؤلاء العملاء، لكنه سيبقى بعيداً عن الصدام المباشر والعسكري بينهم. هذا جانب، وهناك جانب آخر وهو أن هذا الصراع محكوم تحت سقف المصالح الأمريكية بحيث لا يؤثر عليها، وبعد إقرار أمريكا بسياسة تنويع الأدوات وتوزيع الأدوار يجب أن تعود العلاقات بين الأدوات طبيعية لتكامل المخطط الأمريكي وعدم تعارضه، ويكون الجميع يعمل ضمن خط مرسوم له بشكل جيد لا يُعارض دور الآخرين، ومن هنا نستطيع أن نفهم حقيقة الصراع الذي كان زمن عبد الله آل سعود وبين العهد الجديد مع إيران، فالأول صراع سياسي بين أدوات لجهتين وليس لجهة واحدة، لكنه مع العهد الجديد صراع تحت سقف جهة واحدة مع سياسة تنويع المصادر والأدوار. وعودة العلاقات بينهما تعني بلا أدنى شك التطبيق الحرفي لمخطط أمريكا في المنطقة، خاصة وأن أمريكا الآن مشغولة بملف الصين وتريد الانسحاب من المنطقة وتوزيع الأدوار بين الدول التابعة لها بما يحفظ مصالحها بشكل كبير ولا يشكل عبئا عليها، وهذا يقتضي الالتقاء والاجتماع والتعاون وإلغاء سياسة العداء. ورد في جواب الأمير حفظه الله بتاريخ 6/10/2021: "أن أمريكا تعد العُدة للانسحاب من الشرق الأوسط وتوكيل الأمور إلى عملائها وللذين يدورون في فلكها وأن تتفرغ هي للصين". كل هذا يجعلنا نفهم سبب عودة العلاقات التجارية مقدمة لتنسيق سياسي كبير خدمة لأمريكا، ولعل فيما سبق من إلغاء عقوبة الإعدام على القصّر وتخفيف الحكم على النمر وخروجه من السجن مقدمة ورسالة سعودية واضحة لإيران.
رأيك في الموضوع