بعد الانسحاب المكلل بالخزي والعار للقوات الأمريكية من أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات، عاد هذا التساؤل ليبرز على السطح مرة أخرى، هل تتجه أمريكا نحو الانحدار والتراجع عن كونها الدولة الأولى في العالم، وهل ستعود لتنطوي على نفسها وترجع لعزلتها من جديد؟
إن جدلية الصعود والهبوط قائمة منذ الأزل، وتؤكدها دراسات العلماء والمؤرخين. ثم إن تاريخ الإنسانية حافل بأمثلة كثيرة على صحة هذه الجدلية. يقدم ابن خلدون نظرية متكاملة ومتماسكة حول المراحل التي تعيشها المجتمعات منذ نشوئها ثم أفولها، يؤكد فيها على أنه "إذا تأذَّن اللهُ بانقراض الملك من أمَّة؛ حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها". ومن سنن الله تعالى في عباده سوق الظالمين إلى مهالكهم، وأخذهم بما كسبت أيديهم. وهي سنة في الظالمين ثابتة لا تتغير ولا تتخلف، سواء أكان ظلمهم لأنفسهم، أم لغيرهم، وسواء كان ظلمهم لمجرد العبث، أو لمصالح يظنونها، ولقد تجبرت أمريكا وعاثت في العالم الفساد، وقتلت ملايين البشر لا لشيء سوى تجبرها وفرض سطوتها على البشرية.
وفي السنوات الأخيرة بدأت النظريات تتوالى حول حتمية سقوط الإمبراطورية الأمريكية، وتحديد أسباب ذلك، من منطلق أن نهايتها تأتي عندما تبلغ أقصى توسعها، وتعجز عن تحمل عبء هذا التوسع، ويستشهد أصحاب هذه النظرية بمصير الإمبراطوريتين الرومانية والبريطانية والاتحاد السوفيتي، فكلها متشابهة من حيث الطبيعة الاستغلالية للنظام، والتوسع في السيطرة، والظلم والإفراط في استخدام القوة لتحقيق أهدافهم الاستعمارية.
يرى الصحفي رود دريير في مقالة نشرت في صحيفة أمريكان كونسيرفاتيف، بعنوان "سقوط الإمبراطورية الأمريكية"، أن نتيجة سياسة واشنطن في العقدين الأخيرين كانت الفشل، فقد أدت سياستها الرعناء إلى "هيمنة" إيران على العراق، وسوريا أصبحت "متقاسَمة" بين حكومة دمشق وتركيا والأكراد، فيما عادت طالبان مرة أخرى إلى الحكم في أفغانستان، فكان الانسحاب المذل للولايات المتحدة من أفغانستان شاهداً على الفشل الفكري والأخلاقي للنخبة الأمريكية، وسيكون سقوط "الإمبراطورية الأمريكية" نتيجة حتمية لذلك.
كما يؤكد المؤرخ البريطاني وأستاذ التاريخ العالمي في كلية ستيرن بجامعة نيويورك نايل فيرغسون في كتابه "الصرح: صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية"، على أن أمريكا لم تكن ومنذ نشأتها سوى إمبراطورية إمبريالية بالمعنى الحرفي للكلمة. ويحذر فيرغسون من أن الإمبراطورية الأمريكية على حافة الهاوية، وقريبة من الانهيار، ويقول أيضا "ربما يأتي الانهيار الإمبراطوري على نحو مفاجئ جداً أكثر مما يتخيله العديد من المؤرخين، فاجتماع عجوز الميزانيات المالية والاستنزاف العسكري يفترض أنّ الولايات المتحدة قد تكون الإمبراطورية التالية في بلوغها شفير الهاوية".
لقد بدأت الهيمنة الأمريكية على العالم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945م، وقد عزز من تلك الهيمنة الأمريكية، عوامل مهمة منها:
1- إنتاج الاقتصاد الأمريكي لنحو نصف الناتج العالمي.
2- امتلاك أمريكا لأكبر قوة بحرية وجوية، ولعدد كبير من القواعد العسكرية المنتشرة في العديد من الدول، وأنها القوة النووية الكبرى في العالم.
3- وضعها الجيوسياسي على المستوى العالمي، حيث إن أيا من اقتصاديات الدول المنافسة لا يتمتع بالكفاية نفسها، ولا قوة جيوشهم تقارب قوة الجيش الأمريكي.
ولقد عمل القادة الأمريكيون منذ بداية التفوق الأمريكي على خلق وقيادة نظام اقتصادي وسياسي وأمني في مختلف بقاع العالم، ودور أساسي في إنشاء وإدارة العديد من المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والبنك وصندوق النقد الدوليين التي شكلت أدوات الهيمنة الأمريكية على العالم، وقدمت أمريكا "خطة مارشال" التي ساعدت على إنعاش الاقتصاد الأوروبي بعد حرب عالمية مدمرة، ولكن أوروبا أصبحت تحت الوصاية الأمريكية!
كان هناك هاجس دائم لدى الأمريكيين من انحسار تلك الهيمنة. وقد بدأ ذلك الهاجس في الظهور بداية من عام 1950م، فقد أوضح تقرير صادر عن مجلس الأمن القومي الأمريكي أن امتلاك الاتحاد السوفيتي أسلحة نووية من شأنه إحداث تغير جوهري في الخريطة الجيوسياسية العالمية لمصلحة السوفيت، وأن تصريحات الرئيس السوفيتي نيكيتا خروشوف "بدفن الرأسمالية الغربية" يمكن أن تتحقق، أضف إلى ذلك، رؤية كل من الرئيسين الأمريكيين، جون كنيدي وريتشارد نيكسون، فالأول كان يعتقد أن الاتحاد السوفيتي يمكن أن يصبح أغنى من أمريكا، والثاني رأى أن أمريكا بدأت في أن تصبح "عملاقا بلا أنياب". وقد تجسد ذلك الهاجس بعد ذلك بعقد من الزمان، بعد الهزيمة في الهند الصينية، وحدوث مشاكل اقتصادية خطيرة.
شكل ظهور عدد من القوى الإقليمية خلال العقدين السابقين كوابح لوقف التفرد الأمريكي بقيادة العالم، وتعد الصين أبرز تلك القوى، فقد حققت نموا اقتصاديا مرتفعا أذهل العالم. فعلى الرغم من أن اقتصاد أمريكا يعد الأقوى على المستوى العالمي، فإنه من المتوقع أن تحتل الصين تلك المكانة بحلول عام 2025م، كذلك فإن الميزانية العسكرية للصين تزداد بنسبة 10% سنويا، ومن المتوقع زيادة تلك النسبة في المستقبل. وبالتالي تحاول أمريكا كبح جماح الدول المنافسة وبخاصة الصين، نظرا لأنها المنافس الوحيد لواشنطن حتى الآن، ولكنها لم تفلح حتى الآن.
بعد فتره قصيرة من حرب أمريكا الاستعمارية على العراق التي شكلت ذروة التفرد الأمريكي والهيمنة المطلقة بدأ ذلك المد بالانحسار وذلك بسبب تجذر العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين التي لا ترضى بالذل والتبعية وتعلي راية الجهاد لإخراج المحتلين وتحرير البلاد من رجسهم، فقد مرغ المجاهدون أنف أمريكا في التراب، سواء في العراق أو أفغانستان، وها هي اليوم تخرج ذليلة من أفغانستان كما خرجت من قبل بريطانيا والاتحاد السوفيتي.
ومن خلال متابعة تطورات الأوضاع الاقتصادية والاطلاع على تقديرات المحللين العالميين والأمريكيين يمكن تحديد عدد من المؤشرات الاقتصادية التي تشير إلى الانهيار الوشيك لأمريكا وهي كالآتي:
1- ارتفاع العجز في الميزانية الأمريكية إلى مستويات غير مسبوقة.
2- ارتفاع العجز في الميزان التجاري بسبب زيادة الاستيراد من الخارج وتراجع الصادرات الأمريكية، إذ تتصدّر الصين قائمة الدول التي يميل الميزان التجاري لصالحها في مواجهة أمريكا.
3- ارتفاع الديون الأمريكية العامة خلال السنوات العشر الماضية، أي أن أمريكا لا محالة في طريقها إلى الإفلاس. فالصين وحدها تملك نحو تريليون دولار من سندات الخزينة ومن أوراق الدين الأمريكية بصفة عامة على نحو يجعلها قادرة على إسقاط الاقتصاد الأمريكي لو أرادت ذلك بالتخلص من هذه السندات في أي لحظة.
4- كلفت حرب أمريكا على العراق وأفغانستان حوالي 6400 مليار دولار، على ما جاء في دراسة نشرتها نهاية 2019 جامعة براون، فمن واقع سجلات الكونجرس فإن الحرب تكلف أمريكا شهريا 80 مليار دولار ووصلت كلفة إرسال الجنود إلى المنطقة 2.5 مليار دولار. وتتراوح تكلفة إلقاء القنابل ما بين عشرة آلاف إلى 15 ألف دولار في الساعة. وتبلغ تكلفة تشغيل حاملة الطائرات الواحدة ثلاثة ملايين دولار يوميّاً.
5- أكدت وزارة التجارة الأمريكية تراجع النمو في الناتج المحلي الإجمالي وتراجع الطلب على المنتجات الأمريكية غير الدفاعية في الأسواق العالمية عكس كل الوعود التي أعلنتها الحكومة، وهذا التباطؤ يقرب البلاد من الإفلاس. ناهيك عن اهتزاز أسواق الأسهم الأمريكية وفقدان الثقة بها وهروب الاستثمارات الخارجية من البلاد. حيث تسببت أزمة الائتمان الأمريكي في غياب الثقة الدولية في أسواق المال الأمريكية وهروب الاستثمارات الأجنبية وإغلاق عشرات الآلاف من المصانع والشركات الأمريكية وتسريح العاملين فيها، وإفلاس أكثر من 150 بنكاً في أمريكا ولا زال أكثر من 500 بنك على شفا الإفلاس.
6- تراجع الدولار أمام العملات الرئيسية الأخرى، وتدهور قيمته أمام اليورو واليوان الصيني إلى أقصى حد. وهذا التخفيض المستمر لقيمة الدولار يفقد الثقة في الاستثمارات عليه وخصوصا الاستثمار في السندات الحكومية الأمريكية والاستثمار في أسواق المال الأمريكية، كما أن تخلص المستثمرين من الدولار بشراء الذهب كمخزن للقيمة يفقد الدولار قيمته العالمية كمخزن للقيمة.
إن تراجع أمريكا ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل هي منهارة أيضا على المستوى الأخلاقي والقيمي، وهزيمتها العسكرية ليست فقط في أفغانستان ولكن أيضا في العراق. ولسوف تسقط أمريكا كما سقطت غيرها من إمبراطوريات، وستطوى صفحتها، ولن تقوم لها قائمة، بل لن يبكي عليها أحد بسبب كم الجرائم التي ارتكبتها ضد الإنسانية. ولكن ما يجب المراهنة عليه هو حراك الأمة الإسلامية التي تستعيد عافيتها وتسعى نحو إقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة التي ستوحد جميع البلاد الإسلامية، وتحمل الإسلام إلى العالم بأسره.
﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
رأيك في الموضوع