تناقلت وسائل الإعلام منذ 14 كانون الأول/ديسمبر 2020م، أنباء عن اختراق غير مسبوق لأجهزة وأنظمة المعلومات التابعة لمؤسسات أمنية وحكومية مختلفة في الولايات المتحدة وأعلنت عن احتمال وصول الاختراق لإدارة ترسانة الأسلحة النووية.
لعل أهم ما يلفت النظر في الإعلان عن الهجمات السيبرانية على أمريكا واختراق أهم مؤسسات الحكم فيها بما فيها وزارات الدفاع والخارجية والمالية وإدارة الأسلحة النووية هو الأمور التالية:
- الإعلان السريع بأن روسيا تقف وراء هذه الهجمات، ومطالبة الرئيس المنتخب بالعمل الجاد على مجابهة روسيا وعدم التساهل معها، لدرجة أن بايدن صرح بأنه سيتخذ عقوبات رادعة وشديدة على روسيا منذ اللحظة الأولى لاستلامه الحكم.
- الإعلان أن الاختراق الروسي للأنظمة الأمريكية مستمر منذ آذار/مارس أي لمدة 9 شهور قبل أن يعلن عنه. ما يوحي بأن توقيته ونقله إعلاميا بهذه الصورة هو مقصود.
- تغريدة ترامب بأن اتهام روسيا لا مبرر له وهو تضخيم مقصود من الإعلام الكاذب وأن الأنظار يجب أن تتجه للصين بدلا من روسيا.
- تصريح بايدن خلال مؤتمر صحفي يوم 22/12/2020 بأنه لا يجدر به الحديث علنا عن رد فعل قاس على مستوى استخدام سلاح نووي ضد روسيا بسبب الهجمات الأخيرة.
- الادعاء بأن أجهزة الرصد الأمريكي لم تتمكن من رصد ووقف الهجمات السيبرانية حتى الآن ولا تزال أمريكا وبعض الدول الأوروبية تحت تأثير الهجمات السيبرانية.
إن التدقيق بهذه المعطيات جميعها لا بد أن يخلص لنتيجة مهمة تتمثل بإدارة أمريكا لهذه الأزمة بشكل يخدم الإدارة الأمريكية الجديدة. فمن الناحية التقنية لا يمكن التصور أن اختراقاً أمنياً إلكترونياً يدوم أكثر من 9 شهور دون كشفه في دولة كأمريكا لديها من التقنية ما يفوق قدرة روسيا والصين واليابان. والأرجح أن يكون قد تم استدراج أجهزة الاستخبارات الروسية لغرض ما، أو ضخّم الحدث لغاية في نفس صاحبها كما أعرب عن ذلك ترامب في تغريدته اليتيمة حول العملية. إضافة إلى أن ترامب صرح بأنه لديه معلومات كافية وأن الأمر كله تحت السيطرة.
ومع ذلك فإن التصريح عن أمر بهذا الحجم هو جد خطير. فمجرد إعلان أمريكا أن ترسانتها النووية قد وصل لها عدو، يعني أن يقف العالم على أعصابه خشية مما هو أعظم وأخطر. فماذا لو تمكن المخترقون من السيطرة على الأسلحة النووية؟ وماذا لو عملوا على استخدامها وتوجيهها إلى الأعداء والأصدقاء، وإشعال حروب عجزت عنها فترة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي سابقا؟
لا شك أن مثل هذه التساؤلات تفرض نفسها على العالم برمته. ولا بد أن ينظر العالم وخاصة حلفاء أمريكا بالمسؤولية الكافية لحمايتهم وعدم تعرضهم لخطر. وما يزيد من حدة الأزمة ازدياد التصريحات من مسؤولين كبار في أمريكا والتي تلمح وأحيانا تصرح بأن ما قامت به روسيا يرقى إلى حالة حرب أو إعلان حرب من طرف واحد. ولعل هذا هو عين ما تسعى له أمريكا من خلال إدارتها لأزمة الهجوم السيبراني. فقد انتهت رئاسة ترامب دون تحقيق اختراق في عملية إعادة صياغة نظام عالمي جديد خاصة بعد رفض الصين القاطع لكل محاولاته وضغوطه، وفشلت جميع المحاولات لجر الصين إلى حرب باردة. ولعل تصريح ترامب بأن الهجمات السيبرانية هي صينية وليست روسية توحي بأن البوصلة الآن توجه إلى روسيا بدل الصين، ولكن للغرض نفسه خاصة أن أمريكا كما بين بريجينسكي لا يمكن أن تهيمن على العالم دون وجود طرف تتخذه عدوا، وإن كان باتفاق مسبق كما حصل في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
فهل تعاود أمريكا إدراج روسيا في لعبة الحرب الباردة للتمكن من استمرارها بالهيمنة على العالم؟ خاصة وأن روسيا عملت بجد لإعادة بناء بنيتها التحتية بطريقة تحاول بها العودة إلى المسرح العالمي؟ فقد قفزت من المرتبة 22 إلى المرتبة 11 بين أكبر الاقتصادات في العالم، كما أبدت اهتماماً بالأزمة في سوريا وليبيا بالتنسيق مع أمريكا.
نعود إلى هجمات الأمن السيبراني الأخيرة والتي تشير بقوة إلى وقوف روسيا وراءها، وإلى الطريقة العلنية التي تتعامل بها أمريكا والتي تتعارض مع جميع قواعد التجسس والعمليات السرية، والتي عادة ما يتم مواجهتها والانتقام منها في الخفاء. ولكن أمريكا اليوم ترفع صوتها عاليا بأن بنيتها التحتية العسكرية والنووية الأكثر حساسية قد تعرضت للخطر بالرغم من أن هذا يشوه صورتها، وأن قيادتها للعالم قد يصيبها انتكاس كبير. إن الشيء الوحيد المؤكد حاليا هو أن أمريكا تصعّد قضية هجمات الأمن السيبراني، وتزيد من خوف العالم من الانتقام ومن اصطدام بين أقوى دولتين نوويتين.
إن هذه الحالة تشبه إلى حد ما أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 والتي من خلالها انخرط قادة أمريكا والاتحاد السوفيتي في مواجهة سياسية وعسكرية متوترة استمرت 13 يوماً في تشرين الأول/أكتوبر 1962 بسبب تركيب صواريخ سوفيتية مسلحة نووياً في كوبا. وكان رئيس أمريكا جون كينيدي قد قرر فرض حصار بحري حول كوبا وأوضح أن بلاده مستعدة لاستخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر لتحييد هذا التهديد المتصور لأمنها القومي، وعليه خشي الكثير أن يكون العالم على شفا حرب نووية. لقد أشعلت أزمة الصواريخ الكوبية حقبة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي ضمن قواعد وأهداف واتفاقيات محددة جيداً، أصبح العالم بعدها تحت مظلة أمريكا بشكل أساسي والاتحاد السوفيتي بشكل أقل.
فهل يمكن أن يؤدي الإعلان الصاخب عن الهجوم السيبراني إلى إحداث أزمة خانقة تنتهي بتحديد معالم نظام عالمي جديد تحكمه حرب باردة بين أمريكا وروسيا؟ هذا يعتمد على العديد من العوامل؛ أولاً رغبة روسيا وقدرتها على تكرار سيناريوهات ساهمت في انهيار الاتحاد السوفيتي. ثانياً، قدرة بايدن على إتقان اللعبة بكاريزما وأسلوب الرئيس كيندي. ثالثاً، قدرة أمريكا على تجنب الانكماش المالي والاقتصادي، الذي ما زال يطرق بابها منذ أمد طويل وحتى قبل جائحة كورونا. رابعاً، مواقف أوروبا والصين وإمكانية خضوعهم لخطة يمكن أن يكون لها تأثير خطير على استقرارهم ونموهم ورفاههم. أخيراً ظهور دولة مبدئية تشكل تهديداً خطيراً للنظام العالمي الحالي برمته كما هو متوقع عند قيام دولة الخلافة، الذي بات وشيكاً بإذن الله، وهو العامل الأكثر احتمالية لزعزعة استقرار النظام العالمي الحالي، والأمل الوحيد المتبقي في التحرر الكامل من الفظائع والكوارث للهيمنة الحالية لأمريكا وأنظمتها العالمية.
﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
رأيك في الموضوع