في ظل ما يجري هذه الأيام من هرولة وتسارع للتطبيع مع كيان يهود بدءاً بالتطبيع الإماراتي والبحريني ثم السوداني والحديث عن دول أخرى في الطريق للتطبيع... إزاء كل ذلك، ماذا تعني لنا قضية فلسطين، وبيت المقدس والأقصى؟ إنها قضية إسلامية عقدية، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، إن بيت المقدس هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين فتحها عمر بن الخطاب واستلم مفاتيحها سنة 15هـ وطهرها صلاح الدين من رجس الصليبيين سنة 583هـ وحافظ عليها عبد الحميد الثاني.
دعت الحكومة البريطانية إلى عقد مؤتمر دولي 1907م في لندن حضره ممثلون عن بريطانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا وبلجيكا والبرتغال وإيطاليا، وقد وضع هذا المؤتمر تقريراً خطيراً جاء فيه: (... إن الخطر يكمن في الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط بوجه خاص، فهي الجسر البري الضيق الذي يصل آسيا بأفريقيا وتمر به قناة السويس شريان أوروبا وعلى جانب البحر الأحمر وعلى طول ساحل البحر الهندي وبحر العرب حتى خليج البصرة حيث الطريق إلى الهند وإلى الإمبراطوريات الاستعمارية في الشرق، في هذه البقعة الحساسة الشاسعة يعيش شعب واحد تتوفر له من وحدة تاريخية ودينية ووحدة لسانه وآماله كل مقومات التجمع والترابط والاتحاد، تتوفر له في نزعاته التحررية وفي ثرواته الطبيعية ومن كثرة تناسله كل أسباب القوة والتحرر والنهوض. ويبلغ تعداده الآن 35 مليون نسمة ويمكن أن يرتفع في مدى قرن واحد إلى مائة مليون نسمة بالنسبة لشرائعه الإسلامية التي تتيح له تعدد الزوجات وتؤدي إلى زيادة النسل والتكاثر، فكيف يمكن أن يكون وضع هذه المنطقة إذا توحدت فعلاً آمال شعبها وأهدافه وإذا اتجهت هذه القوى في اتجاه واحد؟) واستطرد التقرير في التساؤل (ماذا لو انتشر التعليم وعمت الثقافة في أوساط هذا الشعب؟ وماذا يكون إذا تحررت هذه المنطقة واستغلت ثرواتها الطبيعية من قبل أهلها؟) ويجيب التقرير عن هذا السؤال فيقول: (عند ذلك ستحل الضربة القاضية حتماً بالإمبراطوريات الاستعمارية). من أجل ذلك كله أوصى المؤتمر أن تعمل الدول الاستعمارية على تجزئة هذه المنطقة وتفكيكها بفصل جزئها الآسيوي عن الأفريقي وإقامة حاجز بشري قوي وغريب في نقطة التقاء الجزأين يمكن للاستعمار أن يستخدمه أداة لتحقيق أغراضه.
وقد أخذ المؤتمرون القرارات التالية:
- تسعى الدول ذات المصالح المشتركة للعمل على استمرار تجزئة هذه المنطقة وتأخرها وإبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وتأخر وجهل.
- ضرورة العمل على فصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن الجزء الآسيوي، وتقترح اللجنة لذلك إقامة حاجز بشري قوي وغريب يحتل الجسر الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطها معاً بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة.
إذاً هذا المؤتمر هو وراء وجود كيان يهود في المنطقة وهو حاجة استعمارية، وقد توصلوا إلى ذلك؛ لتجزئة هذه المنطقة وإقامة دويلات قطرية هزيلة وهدم دولة الخلافة العثمانية عندما تمكنوا من إيجاد هذا الكيان المسخ عام 1948م ووقوع الكوارث والمصائب من التقتيل والتشريد لأهلها حتى يومنا هذا.
وكان أمر إقامة هذه الدولة ووجودها في أرض الواقع عبر هدم دولة الخلافة، وهذا يظهر في كلام السلطان عبد الحميد الثاني عندما رفض عرض هيرتزل حيث قال: (انصحوا الدكتور هيرتزل أن لا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني بل ملك الأمة الإسلامية... لقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه... فليحتفظ اليهود بملايينهم فإذا مزقت دولة الخلافة يوماً يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن... وأما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة وهذا الأمر لا يكون، إني لا أستطيع أن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة).
إذاً جرت المؤامرة على هدم الخلافة بتدبير الإنجليز وعميلهم مصطفى كمال في 28 رجب 1342هـ فكانت هذه الكيانات القطرية الهزيلة التي جاءت باتفاقية سايكس بيكو عام 1916م وكان وعد بلفور عام 1917م.
وما نحن عليه الآن من أزمات وضياع الحقوق والأراضي المقدسة وخروج الأمة من التاريخ هو بما أوجدته القوى الاستعمارية في ذلك الزمان واستمرار سطوتها اليوم بقيادة أمريكا بإعطاء كل أسباب البقاء والاستمرار لهذا الكيان من خلال هيمنتها على الوضع السياسي العالمي، وفي البلاد الإسلامية، وحتى تتغير هذه المعادلة التي جعلت القوى الاستعمارية المهيمنة على الأمة الإسلامية لا بد أن تمتلك هذه الأمة إرادتها وقرارها؛ وذلك يكون بأن تتحرك الأمة بكاملها وتثور على هذه الأنظمة القطرية الوطنية التي بناها المستعمر سابقاً وحافظ عليها الآن؛ وذلك بإقامة أنهدولة جامعة للأمة على أنقاض هذه الدويلات الكرتونية، دولة تقوم على عقيدة الأمة الإسلامية والتي عرفها الشرع بأنها خلافة على منهاج النبوة، وهي واجبة شرعاً على الأمة بأن تعمل على إقامتها ودلت على ذلك النصوص الشرعية من كتاب وسنة وإجماع صحابة وقياس شرعي، وهي كذلك وعد من الله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وبشرى النبي ﷺ «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ». فبقيام الخلافة تكون الأمة قد ملكت إرادتها، وبأقل من رد الطرف سيصدر خليفة المسلمين القرار السياسي بتحريك الجيوش لقلع كيان يهود.
وقد بشرنا النبي ﷺ وهو الصادق المصدوق، بقتال يهود، فجاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام «لتقاتلنّ اليهود، فَلْتَقْتُلَنَّهم حتّى يقول الْحَجَرُ: يا مسلم! هذا يَهُودِيٌّ، فتعال فَاقْتُلْهُ». وإن هذا لكائن قريباً بإذنه تعالى، وهذا ما يخشاه الغرب اليوم ويفعل له ألف حساب بأن يعمل حتى لا تتحقق الظروف والأحوال التي توحد الأمة في ظل الخلافة، لذلك هو يحارب بكل قوة توجه الأمة نحو الإسلام بما يسمى بـ(الحرب على الإرهاب) وبمزيد من إشعال الحروب في البلاد الإسلامية والضغط السياسي والاقتصادي. ولكن كل ذلك سيذهب هباءً أمام وجود حزب التحرير الذي يصل الليل بالنهار مع الأمة لإنجاز مشروع الخلافة مشروع الأمة الذي أصبحت له السطوة والقوة بين جماهير الأمة هذه الأيام، فصبر ساعة إن شاء الله ويكون النصر المبين، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الله حسين
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع