شهدت ولاية النيل الأزرق بجنوب شرق السودان أحداثاً دامية، وصراعاً قبلياً بين قبائل الأنقسنا، وبين قبيلة الهوسا بمحليات قيسان، والروصيرص، وود الماحي، بسبب حادثة قتل الرعاة أحد المزارعين، وسبقتها مطالبات من قبيلة الهوسا بأن تكون لهم إدارة أهلية أسوة ببقية المكونات، الأمر الذي عارضته قبائل الأنقسنا بشدة باعتبار أن الهوسا ليسوا أصحاب الأرض.
وبلغ التوتر أشده في يوم الجمعة 16/07/2022 عندما أغارت مجموعات على مدينة قيسان، مستخدمة أسلحة نارية وأسلحة بيضاء، سقط على إثرها 79 قتيلاً، وعشرات الجرحى، ونزح حوالي 15 ألف هرباً من العنف والقتل، واستمرت هذه الأحداث لأيام في غياب كامل للدولة وأجهزتها الأمنية. وبعد استمرار القتل ثم خروج الهوسا بمسيرات في مدن كسلا، والقضارف وكوستي، بل وفي الخرطوم، منددة بما حدث لأهلهم في ولاية النيل الأزرق، بعدها تحركت السلطات بإجراءات حظر التجوال، وانتشار كثيف للجيش، وفرض حالة الطوارئ في الولاية.
من الواضح أن وراء إشعال هذه الأحداث هم الساسة في البلاد، ففي حديث لصحيفة الانتباهة اتهم المك عبيد سليمان أبو شتال، وهو مك قبائل الأنقسنا (الهمج والفونج والبرتا)، اتهم رئيس الحركة الشعبية مالك عقار بأنه يقف وراء هذه الأحداث وتأجيجها، وأشار إلى أن مالك عقار قام بتسليح مجموعة من أبناء الهوسا موجودة في منطقة الديسا توطئة للترتيبات الأمنية، لضعف حاضنته السياسية التي يستند إليها، وكشف أبو شتال أن الأحداث اندلعت عقب مطالبة الهوسا بإمارة لهم، مشيراً إلى عدم توافر الشروط المختصة بالإمارة، وطالب بإعفاء الحاكم وحل حكومته بإلغاء اتفاقية سلام جوبا.
ومن هذا يتضح أن هذه الأحداث المأساوية؛ من قتل وحرق وتهجير، والتي طالت الناس في هذه الولاية هو بسبب الاستقطاب السياسي للقبائل من الساسة والحكام في هذا البلد المكلوم، فتتسبب في الحريق. ويساعد في ذلك وجود نظام الحواكير والإدارة الأهلية التي أسسها الكافر المستعمر الإنجليزي في السودان. حيث قسم السودان إلى ديار قبلية سنة 1923م، ثم تلا ذلك قانون المحاكم الفردية في العام 1925م، ثم صدر قانون باسم (قانون سلطات المشايخ لسنة 1927)، وربط هذه الديار بالهوية القبلية والجغرافية التي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، حيث يتم صهر قيادة الديار، واستخدام مواردها، واحتكار ثرواتها على قبائل بعينها باعتبارها الأكبر حجما، وإهمال القبائل الصغيرة الأخرى، وعدم السماح لها بالاستفادة من هذه الموارد، إلا تحت سلطان القبيلة المهيمنة.
إضافة إلى أن هذه العلاقة تسمح للقبائل الكبيرة بممارسة الحقوق الإدارية والسياسية، بينما لا يسمح بها للقبائل الصغيرة. وأيضاً قام المستعمر بدعم هذه الظاهرة السيئة من خلال التعامل مع القائد الأعلى للقبيلة (الناظر)، فهو الشخص المعني بإدارة الحواكير، وعلى الناظر أن يهتم بتطبيق القوانين والأنظمة.
وبعد حقبة الاستعمار سارت الحكومات الوطنية على نهجه وبحسب سياسته، فأصبحت النزاعات على ملكية الأرض تظهر بين الحين والآخر في كل أنحاء السودان، وازداد اشتعال الصراعات القبلية، وبخاصة بعد اتفاقية سلام جوبا المشئومة، والمسارات الخمسة، إذ إنها أشعلت الصراعات القبلية في مناطق لم تكن بها صراعات قبلية كمنطقة الوسط والشمال والشرق، والنيل الأزرق التي ظهرت فيها ثروات مختلفة من بترول وذهب ويورانيوم وغيرها من المعادن، ما أدى إلى سعي كل قبيلة للسيطرة على هذه المناطق للحصول على نصيبها من الثروات، ما أدى إلى انفجار الأوضاع حتى تجاوز المسلمون حرمة الدماء التي حرمها الإسلام، يقول الرسول ﷺ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»، ويقول ﷺ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ». فعلى المسلمين أن يلتفتوا كذلك إلى أحكام الأرض في الإسلام، وأن يعملوا بمفهومها في حياتهم، وليس بالمفهوم الاستعماري الذي يسبب الفتن والكوارث للبشرية.
إن الأرض استخلف فيها الإنسان، فالمرء يمتلكها للزراعة تملكاً فردياً بالأسباب الشرعية التي حددها الإسلام، ولا يجوز لمسلم أن يمنع أخاه المسلم على أساس الانتماء القبلي أو العرقي من تملك الأرض، قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ»، ويقول ﷺ: «مَنْ عَمَرَ أَرْضاً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا»، فالإسلام لم يخاطب القبائل بامتلاك الأرض، بل خاطب الفرد لينال من الأرض ما ينتفع بها.
وللخروج من هذه الفتنة المستعرة، وهذا البؤس الذي أصاب أهل السودان جراء وقوعهم في ماكينة المؤامرات الغربية التي أسس لها وزير المستعمرات البريطاني أورمس غو في 9/1/1938م حيث قال: "إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم، الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليست إنجلترا وحدها هي التي تلتزم بذلك بل فرنسا أيضاً"، وقال أيضاً: "ومن دواعي فرحنا أن الخلافة الإسلامية زالت ولقد ذهبت، ونتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة، إن سياستنا تهدف دائماً وأبداً إلى منع الوحدة الإسلامية، أو التضامن الإسلامي ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك... إننا في السودان ونيجيريا ومصر وبلاد إسلامية أخرى شجعنا، وكنا على صواب، نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطراً من الوحدة الإسلامية".
وللانفكاك من هذه الدوامة، وإنهاء هذه الصراعات القبلية التي تغذيها الدول الاستعمارية لدرء مخاطر الوحدة الإسلامية، فلا مفر من قلب هذه الأوضاع، والخروج من عباءة أحكام الأنظمة الرأسمالية، والتخلص من الدولة الوطنية الوظيفية، بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تجمع أهل السودان برابطة الأخوة الإسلامية، وتصهرهم بها، وتقضي على الفتن وتربط أهل السودان ببقية بلاد المسلمين.
وإن حزب التحرير يمد يده إليكم يا أهل السودان، لتعملوا معه لتحقيق هذا الأمر العظيم، فوالله، وتالله إنه لعز الدنيا والآخرة. وعلى أهل النصرة من أبناء المسلمين في الجيش والقوى النظامية، وقادة القبائل أن ينصروا حزب التحرير فينبلج فجر الخلافة بكم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
* منسق لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع