"الشعب يريد إسقاط النّظام" شعار رفعته الشعوب في دول عربيّة عدة بعد أن ضاقت ذرعا بحكام جبابرة أذاقوها الويلات. فعاشت سنين طويلة تعاني الظّلم والقهر وتشكو الجوع والفقر. خرجت وتحرّرت من الخوف الذي كبّل الأيادي وأخرس الألسن لتصيح بأعلى صوتها "الشعب يريد إسقاط النّظام". رُفع الشّعار في كلّ المدن الثّائرة وكشف عن غضب شعبيّ جماهيري سرعان ما امتصته حكومات ووجوه في الحكم جديدة أوهمت الشّعوب بأنّها ستحقق مطالبها وتغير من أوضاعها لتحيا في رخاء وأمن بعد إنزال الطّواغيت (بن عليّ - مبارك - القذافي - صالح) عن عروشهم. لقد حسبت أنّها بذلك قد أسقطت النّظام وأنّها قد نالت بذلك مبتغاها وحققت هدفها من الثّورات ولكن هيهات هيهات، فالنّظام لا زال قائما تثبته الوجوه الجديدة التي استماتت لحمايته ومنع سقوطه. لقد تغيرت الوجوه ولكن النظام لم يتغير، سقطت أقنعة الجبابرة وسقطت حكوماتهم ولكن النظام الذي يحكم ويسير لم يسقط.
إن النّظام يعني مجموع القوانين التي تسير الحياة، فأن ينادي الشعب بإسقاط النظام معناه رمي كل القوانين التي عجزت عن حل مشاكله والبحث عن نظام قادر على حلّها، نظام يوفر له العيش الكريم ويخرجه من الأزمات التي طوقت حياته وجعلته يعيش الضنك والجوع والبطالة والخصاصة.
ويستند النظام إلى دولة لها مؤسّسات تقوم على تنفيذه وتسهر على تثبيته وحمايته، لذلك فإن معنى "إسقاط النّظام" هو ذهاب هذه الدولة ومؤسّساتها وإحداث تغيير جذري في الدستور الذي تعمل به. فإسقاط النظام ليس معناه إسقاط أشخاص وجلب آخرين يقومون على تنفيذ بنود الدستور، بل معناه قلعه من جذوره وتغيير الدولة ومؤسساتها وفق نظام جديد يقوم على قوانين أخرى مختلفة.
إن النظام لا يزول بزوال شخص الحاكم، وهذا ما حدث في بلدان الرّبيع العربي وما لمسته الشّعوب بعد سنوات من تعاقب الحكومات وتغير الوجوه؛ فقد ازدادت الأوضاع سوءاً وتفاقمت المشاكل والأزمات، فصدمت الشعوب واشرأبت الأعناق ترقب من ينقذها آملة في قدوم الأفضل ليخلصها من حياة البؤس والشّقاء.
خرجت الشعوب إلى الشوارع دون أن تكون لها قيادة حكيمة تعرف ماذا تريد، قيادة توجّهها للسّير في طريق التغيير الصحيح الذي يقلب كل القوانين الفاسدة وتقدم لها بصدق الحلول الناجعة لمشاكلها. خرجت الشّعوب بعد أن ضاقت ذرعا بحكام جبابرة يسهرون على مصالح أعدائها ويخونونها مقابل عروش ومراكز. خرجت وطالبت بإسقاطهم ولكنها لم تع أنّ من سيخلفهم ويليهم لن يحيد عن طريقهم وسيمشي على دروبهم وينفذ ما يخطّط له الأعداء... فهل تحققت المطالب بسقوط بن علي مثلا وتعاقب الحكومات الواحدة تلو الأخرى وتغير الوجوه بمختلف أطيافها؟ هل تحسنت الأوضاع في مصر وهل هناك اختلاف بين حكم مبارك وحكم السّيسي؟
ليس غريبا أن يتدخّل الغرب في بلاد المسلمين بعد أن هدم خلافتهم التي كانت تحميهم وتذود عنهم، وصار يفرض على الحكام الذين نصّبهم أفكارا كالحرية والديمقراطية وألزمهم سن قوانين تنافي عقيدة الشعوب المسلمة. لقد أسقط الغرب مفاهيمه الرأسمالية وحكم نظامه العلماني في حياة هذه الشعوب فامتزجت المطالب الشعبية بالمؤامرة الغربية وأنتجت صراعا مسلحا، اختلفت حدته بين تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا. فقد لعب الغرب بخبث على وتر ضعف كل دولة وحاك ما يحلو له من أكاذيب وعِلل واهية ورفع شعارات خادعة ليحقق مطالبه ومآربه من فرض التبعية له ومن استغلال للثروات ونهب للخيرات.
يعلم الغرب جيدا أن صراعه مع الإسلام صراع حضاري، وأن هذا الصراع صراع بقاء أو فناء، لذلك يعمل جاهدا وبكل الطرق والسبل عسى أن يحدّ منه ويمنع عودته إلى حياة المسلمين بصفة خاصة وإلى الحياة بصفة عامّة، لأنه يعلم جيدا أن هذا الدين قادر على قلب الموازين وتغيير صورة العالم بأكمله بقيادته له، ولعل تصريح ماكرون الأخير وما يحمله من حقد وكره للإسلام يفضح رعب الغرب من حضارة الإسلام خاصة بعد أن أفلست حضارتهم وعجزت عن حل مشاكل الناس.
إن إسقاط النظام لا يعني العيش في الفوضى وعدم التقيد بقوانين تنظم العلاقات بين الناس، بل معناه استبدال آخر به مغاير له يصحح ما أفسده ويحل مشاكل الناس التي يتخبطون فيها. والنظام الرأسمالي القائم اليوم قد بانت عوراته وظهر فساده وعجزه عن قيادة العالم، وعلاوة على ذلك فقد فُرض فرضاً على أمّة الإسلام بعد هدم دولتها وسير حياتها فعاشت غربة موحشة وانفصاما نكداً مما جعل المسلمين تائهين بين عقيدتهم ونظام لم ينبثق عنها، وتحكم فيهم نظام آخر غريب تمخّض عن حضارة تحارب دينهم وتعمل على اجتثاث مفاهيمه من عقول ونفوس أبنائهم.
لقد وعى العلماء المخلصون من أبناء الأمة على الصراع الأبدي بين الحق والباطل ووعوا على الحرب المتواصلة بين حضارتي الإسلام والغرب، وساروا وفق تحذير خالقهم من أهل الباطل الذين لا يكنون للإسلام وأهله إلا الكره والحقد ويعملون دوما على النيل منه، ونادى هؤلاء العلماء دوما بتعليم أبناء المسلمين هذه المسلمة وترسيخ هذه البديهيات في عقولهم ليفهموا معنى أن تكون الغلبة لدينهم ولشرع ربهم وأن لا يرضوا الدنية فيه فيعملوا على رفعته وعلى أن يكون هو القيادة والهدى والنور للبشرية قاطبة.
قال ابن مسعود في تفسير آية ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾: قد بيّن لنا في هذا القرآن كلّ علم، وكلّ شيء... فإنّ القرآن اشتمل على كلّ علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كلّ حلال وحرام، وما النّاس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم.
فكيف للإنسان أن يسير في حياته بغير نظام خالقه؟! وكيف للمسلم أن يرضى بإنسان عاجز وناقص أن يسن له قوانين تنظم حياته ويتخلى عن نظام الخالق الكامل القادر الذي يعلم كل شيء وهو على كل شيء قدير؟!
على الشّعوب المسلمة التي تنادي بإسقاط النظام أن تفقه وتعي أنّ هذا النظام المراد إسقاطه هو النظام الرّأسمالي العلماني الذي يتحكم في العالم والذي أذاق الإنسانيّة الويلات نتيجة جشعه وفساد فكره ومنبعه، وعليها أن تضع يدها بأيدي المخلصين من أبنائها العاملين لإعادة نظام رب العالمين ليحكم ولتكون له القيادة فيخرج الناس من ظلم النظام الرأسمالي إلى عدل ورحمة النظام الإسلامي. فلنعمل على إقامة الخلافة الرّاشدة الثّانية على منهاج النبوة؛ لتكون الحصن الحصين لنظام الإسلام فتحكم به وتحمله للبشرية جمعاء.
بقلم: الأستاذة زينة الصامت
رأيك في الموضوع