إن من أهم وأبرزِ ما بات يؤرِّق النظام الجزائري في هذه الآونة موقف أمريكا من الأحداث التي تجري في الجوار الإقليمي للجزائر، أو بالأحرى التحركات العسكرية الأمريكية عبر وكلائها في ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي، وما بات مطلوباً من الجيش الجزائري إزاء المستجدات على الساحة الإقليمية جنوباً.
من المؤكد أنه في هذا الظرف بالذات حل بالجزائر يوم 23/09/2020م الجنرال ستيفان تونساند قائد القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) التي مقر قيادتها في ألمانيا. ومن اللافت للنظر أنه استُقبل من طرف رئيس الجمهورية والتقى بمسئولين سامين في الدولة على غرار قائد أركانِ الجيش الجزائري السعيد شنقريحة وعددٍ معتبر من الضباط الكبار، كما التقى مع وزير الخارجية صبري بوقادوم. وبالرغم من عدم توفرِ معلومات دقيقةٍ ووافية عن مضمون "المشاورات" وفحوى اللقاءات، إلا أن طبيعةَ العلاقات الأمنية والعسكرية بين الجزائر وواشنطن، وموقف الجزائر من الوضع الخطير جدّاً في ليبيا المجاورة، والموقف من انقلاب مالي ومساعي الجزائر تجاهه، ومسألة التعاون الأمني والاستخباراتي الذي كان ولا يزال مستمراً بين الجزائر وأمريكا في مسألة محاربة الإرهاب بغرض المحافظة على "السلام" في المنطقة، فضلاً عن "فُرص التعاون بين الجيشين" في المستقبل بعد الرفع المنتَظر للحظر الدستوري على الجيش في الوثيقة الجديدة، أي دستور تبون الذي سيُعرض للاستفتاء الشعبي يوم الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر القادم، شكلت بحسب ما تسرب من معلوماتٍ أبرزَ الملفات التي تصدرت هذه اللقاءات وما تطرق إليه الطرفان خلال زيارة الجنرال الأمريكي.
إلا أن هذا كلَّه لا يعني أن الضغوط الأمريكية هي التي آتت أكلها فجعلت القيادة العسكريةَ في الجزائر تخطو هذه الخطوة الجريئة والكبيرة بالنظر إلى كل المواقف السابقة في هذا الصدد من طرف كل القيادات السياسية والعسكرية الجزائرية المتلاحقة. حيث نجد أن هذا الموقف الجديدَ يتفق تماماً مع الرغبة الملحة للأوروبيين أيضاً في الاستعانة بقوات الجيش الجزائري بل في تسخيرها للمحافظة على نفوذهم السياسي والاقتصادي في دول الساحل الأفريقي وفي الجوار الإقليمي للجزائر جنوباً. إلا أن براجماتية الأمريكيين في رعاية وخدمةِ مصالحهم اقتضت عدم تفويت فرصة ثمينةٍ للتغلغل من خلال استغلال أوراق كثيرة ليس أقلها مستجدات المنطقة كما أسلفنا، مستخدمةً أساليب لا تحصى عدا الدبلوماسية والضغط السياسي والاقتصادي وتسخير القوى الإقليمية المعتَبرة من حيث القوة في النزاعات المسلحة ومناطق الصراع كمصر وتركيا وغيرها. كما أن سياسة ودهاءَ البريطانيين كانت وما زالت تقتضي المحافظة على مصالحهم وخدمةَ أغراضهم في البلاد الإسلامية من خلال مسايرة أمريكا في الظاهر في أغلب الملفات وخاصةً في البلاد التي تشهد اضطرابات وصراعاتٍ محتدمة ودامية.
والنتيجة أنْ وجد الرئيسُ الجزائري الجديد عبد المجيد تبون على مكتبه ضمن جدول أعماله وضمن المهمة التي أنيطت به وجرى تكليفه بها، الضرورةَ الملحة لوضع دستور جديدٍ للبلاد سيُمرر عبر استفتاء شعبي تقرر سلفاً ما ينبغي أن يكون فيه وما لا يكون، وأن الاستفتاء سوف يُـجرى يوم 01/11/2020م القادم تيمناً بذكرى انطلاقة ثورة التحرير الجزائرية الكبرى ضد المستعمِر الفرنسي! علماً أن الرئيس تبون كان قد صرح مراراً بأنه سوف يكون من أولوياته إجراء تعديلاتٍ دستورية مهمة بعد حوارٍ شامل يجريه مع كافة الأطراف الفاعلة، أي مع رؤساء الأحزاب والشخصيات السياسية والهيئات المجتمعية المختلفة. كما أنه حرص على مناقشة مسودة الدستور الجديد من قِبل "لجان متخصصة" من العارفين بالقانون الدستوري قبل عرضه على غرفتي البرلمان بغرض المناقشة والإثراء، ثم تقديمه للاستفتاء. إلا أن الناظر في مسودة الدستور "الجديد" الذي سيرسم مستقبلَ الجزائر وفق منظور أصحاب القرار لا يجد ضمن ما يلفت الانتباه من مواده - عدا مواد تأكيد وتثبيت مرتَكزات الهوية الوطنية وما يُنعت بالثوابت – لا يجد سوى ما تعلق بمسألة فسح المجال للجيش الجزائري للتدخل خارج الحدود! بالإضافة إلى أمور نذكر من أبرزها:
1- تكريس جريمة إقصاء الإسلام عن الحكم.
2- دسترة الحراك الشعبي الذي انطلق يوم 22/02/2019م، وهو ما يعني ركوبَ الحراك الشعبي بغرض إخماده، باعتباره المنقذ للبلد من "العصابة" التي كانت تحكم، وإيهام الناس أن "جزائر جديدة" بدستورٍ جديدٍ هي الآن على الأبواب، الأمر الذي يثير السخرية!! بينما الحقيقة هي أن الزمرة الفاسدةَ التي كانت تحكم قبل مجيء تبون رئيساً للجزائر هي نفسها التي تحكم الآن، رغم إبعاد مَن أُبعد وسجن مَن سُجن!
3- تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتحديد البقاء في سدة الرئاسة بعهدتين. وهذا أمر شكلي لا يقدم ولا يؤخر في شئون البلاد، كما أنه لا يحل أيةَ مشكلة فيها، إذ إنه لا يطال ركائز منظومةِ الحكم الفاسدة والمفلسة في شيء.
وفي الأخير لا يسعنا إلا التأكيد على أهم ما سيُسفر عنه هذا التعديل الدستوري المرتقب في الجزائر وما دعا إلى إجرائه، وهو بالتأكيد ما سوف يتيح للمؤسسة الحاكمةِ في الجزائر أن تقرر إرسالَ قواتٍ متى شاءت وحيثما يلزم خارج الحدود خاصةً في مهمات إقليمية، وفق ما ورد في المواد ذات الصلة و"ما تقتضيه مصلحة البلاد" ولكن وفق منظور سلطة الأمر الواقع التابعة لأعداء الأمة من الأوروبيين! فبعد أن كان مدستَراً من ضمن عقيدة الجيش الجزائري طوال عقود أنه ينأى بقواته عن التدخل في الصراعات خارج الحدود مهما كانت طبيعتها، ومنها الإقليمية على وجه الخصوص، وأن مهمة الجيش الجزائري ستظل دوماً الدفاع عن الوطن وعن سلامة أراضيه وليس غير ذلك، سوف يتقرر عبر استفتاء شعبي، أنه بإمكانه الآن القيام بذلك بما يحقق "مصلحة البلاد والعباد"! ومن الواضح أن الصراعات بين القوى الكبرى في الجوار الإقليمي وبالأخص على الحدود الشرقية من جهة الجنوب، أي في ليبيا تحديداً، والاضطرابات المستقبلية المتوقعَة في دول الساحل الأفريقي هي التي أمْلت هذه المواقف على المؤسسة الحاكمة في الجزائر بتدبير من القوى الاستعمارية الأوروبية (بريطانيا وفرنسا)، تأهباً لما قد يطرأ في المستقبل على المنطقة من صدامات عسكرية جراء تسخير هذه الدول الأوروبية للأطراف المحلية والإقليمية في مواجهة المزاحمين والمنافسين الدوليين وأدواتهم، وبالأخص الأمريكيين، على المنافع والثروات والنفوذ في القارة الأفريقية وفي المنطقة التي ظلت تابعةً وخاضعةً لأوروبا منذ عقود.
يجدر القول هنا أنه لو كان ذلك "التدخل" العسكري خارج الحدود جهاداً في سبيل الله، إذ الجيوش المعنية هي جيوش بلاد المسلمين، ولو لردِّ عدوانٍ كافرٍ عن بعض البلاد الإسلامية، ولو في زمن غيابِ الحاكم الشرعي وغياب الخلافة حاضنةِ الأمة ورافعةِ راية المسلمين، لما كان هنالك مانع من تحرك أي جيش من جيوشهم في أي اتجاه لدحر أعداء الأمة الإسلامية حيثما حلُّوا، كتحرير فلسطين مثلاً. أما وأنَّ جيوش الأمة تُسخر بهذه الأساليب الذكية عبر الأنظمة العميلة لتحقيق مطامعِ الكفار المستعمِرين في بلاد المسلمين فإن ذلك حقاًّ مما يزيد من الألم والأسى ومن مآسي المسلمين.
رأيك في الموضوع