ما زلنا نتحدث عن الأمر الثالث، الذي ينخر في أوصال المجتمع في أمريكا، ويهدد الحكومة الفيدرالية برمتها بالانهيار التام، كما يهدد الكثير من الولايات المتحدة في هذه الحكومة بالانفصال. هذا الأمر هو التردّي الاقتصادي الحاصل، والهوة الكبيرة بين حجم الناتج القومي، وبين حجم النفقات الداخلية والخارجية؛ أي حجم المديونية العامة في أمريكا، والعجز في الميزانية، وفي الميزان التجاري.
إن الانهيار الاقتصادي - بالمعنى الاقتصادي والأرقام والإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الرسمية - حاصل في أمريكا بالفعل؛ فحجم المديونية العامة قد بلغ حوالي 22 تريليون دولار لسنة 2019، حسب بيانات وزارة الخزانة الأمريكية، ويشمل الدين العام بحجم 17 تريليون دولار، وديون الأجهزة الحكومية بحجم 6 تريليونات دولار وذلك لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة. وذكر مكتب الكونغرس الأمريكي في بيان صادر عنه عام 2019 أن عجز الميزانية السنوية بلغ 897 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 15.1. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الثاني من العام الحالي 2020 بنسبة 41.9%، والعجز في الموازنة حسب إحصائية صادرة عن بنك أتلانتا الاحتياطي الفيدرالي 2020 قد اقترب من (أربعة تريليونات دولار) هذا العام، وبلغت نسبة البطالة 14.7% من مجمل السكان، وبلغ العجز في الميزان التجاري الأمريكي 621 مليار دولار حسب إحصائية وزارة التجارة الأمريكية لسنة 2018، وبلغت نسبة الفقر في أمريكا لسنة 2019 - حسب إحصائية مقرر الأمم المتحدة بشأن الفقر فيليب الستون - إلى 41 مليون شخص، أي أن نحو 12.7 بالمئة يعيشون في فقر، فيما يعيش 18.5 مليوناً في فقر مدقع.
إن هذا الانهيار والتردي؛ تغطي عليه أمريكا بسياسات عديدة: منها خارجية؛ بتحميل بعض الأعباء للخارج وذلك باتباع سياسات من التحكمات النقدية؛ وخاصة باستخدام سلاح الابتزاز الدولاري؛ المتحكم بالنظام النقدي العالمي، ومنها الضغوطات على بعض الدول والحكومات، ومنها إصدار سندات الخزينة بمليارات الدولارات، وطرحها في الأسواق بين الفينة والأخرى، ومنها ابتزازات للدول النامية وخاصة الدول النفطية، وتحكمات ببيع الأسلحة في مناطق نفوذها السياسي، ومنها أيضا إثارة التوترات والحروب في مناطق العالم وإشعال الأزمات السياسية... وهناك أساليب أخرى من الابتزاز الاقتصادي تستخدمها أمريكا للتغطية على عوراتها لا نريد أن نفصل فيها هنا.
ومع كل ذلك، أي مع كل هذه الحركات من الحكومة الفيدرالية، فإن الأمور تقفز إلى السطح بين الفينة والأخرى، ولا تستطيع إخفاءها. وكما ذكرنا فقد كشفت جائحة كورونا الكثير من الأمور داخل المجتمع في أمريكا أهمها الناحية الاقتصادية المتردية. وزاد الطين بلة ما يعاني منه الاقتصاد العالمي؛ بالتوازي مع معاناة الاقتصاد الأمريكي؛ حيث إن هذه الجائحة عالمية، ولا تختص ببلد دون الآخر؛ مما جعل تصدير الأزمة إلى الخارج أمرا صعبا، وينحصر في بعض الأمور؛ في ظل الأجواء الاقتصادية العالمية المتردية بسبب هذه الجائحة.
لقد أثرت جائحة كورونا بشكل واضح على الاقتصاد الأمريكي عام 2020، وزادت الأمور تعقيدا بشكل بارز؛ حيث أظهرت الإحصاءات حجم الدمار الذي لحق بهذا الاقتصاد في ظل الجائحة فأصبحت الحكومة الفدرالية في وضع صعب بسبب تعطل الشركات وزيادة نسبة العاطلين عن العمل وانكماش التجارة الخارجية والداخلية وانكماش الناتج القومي الأمريكي.
إن هذا التردي الاقتصادي أمر خطير على وحدة البلاد، وعلى قدرة الحكومة الفيدرالية السيطرة على الأوضاع، وخاصة في ظل تنامي أعداد العاطلين عن العمل، وزيادة استنزاف المزيد من الدولارات، وسندات الخزينة؛ وبالتالي زيادة حجم الدين العام المتضخم سابقا؛ والذي تجاوز كل الخطوط الحمراء.
والخطر الثاني: هو التململ الحاصل عند بعض الولايات الغنية، وتذمرها بسبب تحمل أعباء الولايات الفقيرة، وذلك بسبب النظرة النفعية الفردية الناتجة عن الأفكار الرأسمالية، وحب الذات وعدم الترابط المبدئي. إن هذا التردي المستمر في ظل الأزمات المتتالية لينذر حقيقة بثورة داخل المجتمع في أمريكا وينذر أيضا بثورة داخل الولايات تطالب بالانفصال وترك الاتحاد نهائيا.
4- الصراع السياسي المحتدم بين الحزبين الكبيرين، وسياسات الرئيس الحالي ترامب في مواجهة الأزمات السياسية، وإثارة بذور الفتن والتشرذم لدى الشعب الأمريكي؛ وخاصة في مرحلة الانتخابات الحالية:
إن طبيعة الصراع الحاصل بين الحزبين الكبيرين هذه الأيام، خاصة في ظل أجواء الانتخابات 2020 قد أخذ منحى خطيرا جدا، وصل إلى درجة التخوين والتآمر مع جهات أجنبية، وخاصة قضية الانتخابات لسنة 2016. أما بالنسبة للرئيس ترامب، فلا يخفى حصول التذمر الكبير لدى قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي؛ بسبب سياساته العنصرية، وخاصة ضد السود، والمهاجرين والعرقيات من البلاد الآسيوية.
إن طبيعة التركيبة التي يعيش في ظلها الشعب الأمريكي؛ لتنذر بالانفجار في أية لحظة، وخاصة أن تاريخ أمريكا حافل بمثل هذه الثورات في بداية تشكلها. لقد بدأت بالفعل بعض الولايات من عرقيات معينة تطالب بالانفصال وتتخذ من سياسات ترامب الصبيانية والمتهورة، ومن التردي الاقتصادي ذريعة لذلك. وهذا الأمر سيتفاقم بشكل بارز؛ في ظل الانتخابات القادمة وخاصة إذا فاز فيها ترامب.
5- آفة الطبقية المتغلغلة في الوسط الأمريكي، والتحكمات الاقتصادية؛ وخاصة من طبقة الواحد بالمئة المتحكمة في الثروات والأسواق والمؤسسات المالية الكبرى.
يتبع في الحلقة القادمة...
رأيك في الموضوع