اعتبرت السلطة الفلسطينية وفصائل منظمة التحرير وحركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وجامعة الدول العربية وتركيا، اعتبروا جميعا إعلان رئيسة الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا يوم الجمعة 20 كانون أول/ديسمبر 2019م فتح تحقيق كامل في مزاعم ارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية، انتصارا للقضية الفلسطينية! وفور الإعلان امتلأت الصحف ووكالات الإعلام بالتصريحات والأخبار والمقالات التي تتحدث عن هذا النصر المؤزر!
فما هي المحكمة الجنائية الدولية؟ وهل يشكل انضمام السلطة لها انعطافة مهمة في سير قضية فلسطين وانتصارا للشهداء والجرحى والأسرى؟ وهل سنرى مرتكبي المجازر في أقفاص هذه المحكمة؟! وما تأثير ذلك إن حصل على حقيقة الصراع وجوهره؟ وهل المحكمة الجنائية هي الملاذ الصحيح لحل قضية فلسطين والانتصار لها؟
تأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من تموز/يوليو 2002 كترجمة لما يعرف بميثاق روما الذي اعتبر أن ملايين الأطفال والنساء والرجال في القرن العشرين قد وقعوا "ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة" وأن مثل هذه الجرائم لا يجوز أن تمر دون عقاب، وكان ذلك في اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في إيطاليا في تموز/يوليو 1998، وقد انضمت السلطة الفلسطينية رسمياً إلى المحكمة في شهر نيسان عام 2015 لتصبح العضو رقم 123.
ويقع مقر المحكمة في هولندا – لاهاي، وتهيمن على المحكمة دول أوروبا الغربية وتعمل على جعلها جسما موازيا لمحكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة والتي تسيطر عليها الولايات المتحدة، وتختص المحكمة الجنائية بمتابعة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ولكل مصطلح من هذه المسميات تعريف حسب ميثاق روما.
هل يشكل انضمام السلطة للمحكمة انعطافة مهمة في سير القضية الفلسطينية وما جدوى ذلك؟
إن النظرة الصحيحة والعميقة إلى تبعات ما أعلنته فاتو بنسودا بخصوص قضية فلسطين تظهر بأن هذا القرار ليس أكثر من فقاعة صابون فارغة تلقفتها السلطة وعملت على تضخيمها لتغطي على الأزمة التي تعيشها في ظل عدم تنفيذ مشروع الدولتين الأمريكي الذي قدمت له كل التنازلات والخيانات على مر عقود لإنجاحه وتطبيقه على أرض الواقع، فإذا بالإدارة الأمريكية تطل بمشروع أكثر إجراما المسمى (صفقة القرن) وتصفع السلطة على وجهها. ولبيان حقيقة هذا السراب -الانتصار المزعوم - في عين السلطة نورد عدة حقائق:
- إن المحكمة الجنائية الدولية تعتبر كيان يهود دولة لها الحق في الوجود على 80% من أرض فلسطين وهذا لوحده جريمة بحق أهل فلسطين وأمة الإسلام، وقرارها الأخير هو ذر للرماد في العيون، حيث يحصر الجرائم بما يقوم به كيان يهود في الضفة وغزة، ويجعل وجوده على معظم فلسطين شرعيا والاعتداء عليه جريمة لا تختلف عن جرائم يهود في الضفة وغزة.
- إن أقصى ما يمكن أن تقوم به المحكمة هو فتح تحقيق بعد كل مجزرة وإصدار مذكرة اعتقال بحق مرتكبيها بعد أن تحصرهم في أشخاص بدل أن يكونوا في جيش وكيان مُغتصب، وهذا تضليل وخداع فوق أنه لا يمنع جريمة ولا يردع معتديا.
- إن المحكمة الجنائية ليست حريصة على أهل فلسطين، ولو كانت كذلك لعملت على إيقاف الجرائم المستمرة بحقهم لا أن تنتظر حصولها لتجري تحقيقا وإصدار مذكرة تدين مرتكبيها وتطالب بتسليمهم للمحاكمة، هذا على فرض إجراء تحقيق نزيه ووجود محاسبة قوية، وهو أمر غير متصور في مؤسسة دولية تسيطر عليها دول كافرة استعمارية هي التي أوجدت كيان يهود وتعمل على حمايته بكل الوسائل والأساليب. وفي هذا الجانب تبين الأستاذة المحاضرة بالقانون الدولي شارون فايل المختصة في قانون النزاعات المسلحة وآلية إنفاذ القانون الدولي وقانون الاحتلال العسكري في مقالة مترجمة نشرتها الجزيرة نقلاً عن موقع أوريان 21 الفرنسي بعنوان "فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية"، تقول فيها: إن المحكمة الجنائية ليست سوى انعكاس لتوازن القوى حيث تقوم بمساءلة بعض الدول وتسمح لأخرى بالإفلات من العقاب، وبخصوص كيان يهود تبين فايل أن إجراء أي تحقيق بحقه قد ينتهي به المطاف كما حصل مع تقرير غولدستون المتعلق بعملية الرصاص المصبوب عام 2009 حيث أعلن المدعي العام للجنائية في ذلك الوقت لويس مورينو أوكامبو وبعد ثلاث سنوات من التحقيقات عدم الاختصاص رغم أن التقرير تضمن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية!
هل سنرى مرتكبي المجازر في أقفاص المحكمة؟ وما تأثير ذلك إن حصل على حقيقة الصراع وجوهره؟
الأسس التي تقوم عليها المحكمة تتيح لكيان يهود الإفلات منها، حيث إن قانون المحكمة يتيح (لإسرائيل) أن توقف التحقيق إذا أبلغت المحكمة بأنها ستفتح تحقيقا من جانبها بحجة وجود جهاز قضائي لديها قادر على التحقيق في الجرائم كما فعلت عام 2002 وأحبطت بذلك تحقيقا موازيا فتح في إسبانيا على أساس الولاية القضائية العالمية، وفي المقابل تقول فايل في مقالتها التي أشرنا لها سابقا "من السخرية أن ينتهي الأمر بنا إلى محكمة جنائية تتعامل فقط مع الجرائم التي يرتكبها الفلسطينيون لأن نظامهم القضائي غير قادر على التحقيق في الأنشطة الإجرامية التي يرتكبها مواطنوهم"، وعلاوة على ذلك فإن (إسرائيل) ليست عضوا في المحكمة وهي غير ملزمة بتسليم من تصدر بحقه مذكرة اعتقال، وكذلك فإن مجلس الأمن وفيه ثلاث دول ليست أعضاء في المحكمة - أمريكا وروسيا والصين - لديه سلطة منع فتح أو استمرار التحقيق لمدة 12 شهرا قابلة للتجديد وهذا قد يكون مخرجا لكيان يهود من أي تحقيق يطالها.
ولو فرضنا أنه تم فتح تحقيق وإدانة كيان يهود وتسليم المطلوبين للمحكمة، فإن هذا لن يغير من واقع قضية فلسطين شيئا، ولن يمحو من أثر جريمة الغرب شيئا، حيث ستبقى فلسطين أرضا مغتصبة تئن تحت وطأة كيان يهود، ويعاني أهلها الظلم والقتل والحصار والاضطهاد والتشريد، وتدنس مقدساتها ليل نهار ويمكر كيان يهود بأهلها، ويتحين الفرصة لارتكاب المجازر في قطاع غزة والضفة!
إن الحل الجذري لقضية فلسطين والانتصار الحقيقي لها، مسطر في الإسلام العظيم، وليس في قوانين الأمم المتحدة أو محكمة الجنايات الدولية أو في مجلس الأمن أو غيرها من المؤسسات الاستعمارية، وهذا الحل هو اقتلاع كيان يهود من جذوره وتخليص الأرض من شروره، وترجمة هذا الحل على أرض الواقع يكون بالتوجه للأمة الإسلامية وجيوشها لتقوم بواجبها تجاه قضيتها، وما سوى ذلك عبث وسطحية وتقزيم للقضية وتمزيق لها بين مخالب أوروبا وأنياب أمريكا ومشاريعهما.
بقلم: الدكتور إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع