قبل ثمانية أشهر بدأ حفتر عمليته العسكرية على طرابلس التي أطلق عليها اسم (الفتح المبين) وكان يتوقع أن يدخلها في أقل من 48 ساعة، وكان يراهن على أنصاره وخلاياه في بعض مدن غرب ليبيا، وقد حشد لتلك العملية الكثير من الإمكانيات من آليات ومقاتلين وذخائر وحملات إعلامية ودعائية. ومع ما كان يتلقاه من دعم مالي وعسكري وسياسي من أطراف دولية وإقليمية، فإن الأمور سارت على غير ما كان يريده من نصر بل كانت هذه المواجهات العنيفة والحرب الشرسة طوال هذه الأشهر الثمانية، وكانت هذه الخسائر الفادحة في آلياته وذخائره ومقاتليه الليبيين منهم وغير الليبيين. ومع استمرار هذه الحرب كل هذه المدة وازدياد خسائره الكبيرة في العتاد والجنود فإن حفتر ما زال يحاول بإصرار واستماتة دخول طرابلس، تدفعه في ذلك رغبته الجامحة في السيطرة والوصول إلى الحكم وليس في محاربة الإرهاب كما يدعي، وما زال حفتر يوهم أنصاره وداعميه في الداخل والخارج بأنه يحقق الانتصار تلو الانتصار في كل شهر وفي كل أسبوع وكل يوم وكل ساعة، وما زال مسؤولوه ووسائل إعلامه الحربية يواصلون حربهم الإعلامية بتزييف الحقائق وتغيير واقع المعارك على الأرض بتكرار تصريحاتهم وأحاديثهم طوال هذه الأشهر الثمانية بأن معركة دخول طرابلس قد حسمت وأن جيشه قد دخل أمس طرابلس أو يدخل اليوم أو يدخل غدا أو بعد غدٍ وهكذا!!!
إن حفتر يفعل ذلك في حربه الإعلامية ليوهم العالم والدول الداعمة له بأنه قد انتصر في حربه وسيطر على كل مناطق ليبيا، وأنه قد أصبح هو الرجل القوي والحاكم الفعلي ليحصل على مزيد من التأييد الدولي والدعم العسكري والمالي من الدول الداعمة له. وهو الآن وفي هذه الأيام بالذات يسابق الزمن ويحاول أن يحقق شيئا من الانتصار والسيطرة على الأرض ليسبق مؤتمر (برلين) وهو في وضع عسكري وسياسي يمكّنه من المشاركة فيه، وأن يكون حاضراً في المشهد السياسي الليبي ولديه ورقة تفاوض قوية، ولقد لاحظنا خلال الأسابيع القليلة الماضية هذا التصعيد العسكري وهذه الحدة في المعارك الإعلامية والقتالية التي يشنها حفتر على كل الجبهات، ويبدو أنه قد فعل ذلك بعد أن صدرت تصريحات من أمريكا وبعض الدول الأخرى الكبرى والإقليمية بأن يوقف حربه على طرابلس ويعود إلى المسار السلمي والحل التفاوضي، ويبدو أنه قد فهم الرسالة وعرف أن المطلوب منه هو الإسراع في حسم المعركة لصالحه وصالح الأطراف الداعمة له. ولا يفهم غير ذلك من ردة فعل حفتر على تلك التصريحات وتلك المطالبات بوقف إطلاق النار، إذ لا يُتصور أن لا يستجيب حفتر لطلب أمريكا بإنهاء الحرب لو كانت أمريكا جادة وتريد ذلك منه فعلا، ولا يتصور أن حفتر لم يستمع ولم يعبأ ولم يأخذ (بخاطر) الوفد الأمريكي الذي زاره في مقره في الرجمة، والوفد الأمريكي الآخر الذي استدعاه لمقابلته في الأردن!
كما أن هذه الدويلات الإقليمية التي تدعم وتساعد حفتر منذ سنوات والتي زادت من دعمها له في حربه الأخيرة على طرابلس لا يتصور منها الاستمرار في دعمه لو عرفت أن أمريكا تريد منه إيقاف الحرب فعلاً، إلا إذا كانت هذه الدويلات (مستقلة وحرة وتملك إرادتها) ونحن لا نعرف قدرها ومكانتها!!
وحتى هذه الدولة الكبرى التي نراها تساعد حفتر بشكل رسمي أو غير رسمي وهي روسيا ما كان لها أن تتدخل في ليبيا لولا ضوء أخضر من أمريكا وبتنسيق معها لأن روسيا ليست صاحبة نفوذ فيها، وربما أرادت أمريكا بهذا التدخل الروسي زيادة الخلاف بين أوروبا وروسيا في مناطق أخرى كشرق أوروبا ومناطق كانت تابعة للاتحاد السوفييتي البائد. وربما أرادت أمريكا من دخول روسيا إلى حلبة الصراع في ليبيا أن تخرج فرنسا وبريطانيا بالذات من مناطق نفوذهما ومنها ليبيا.
ونخشى أن يشتد الصراع وتمتد الحرب إلى زمن أطول - لا قدّر الله - بعد دخول تركيا على الخط وبضوء أخضر أمريكي أيضاً كما حصل في سوريا.
وربما استفادت أمريكا من وجود روسيا في ليبيا بأن توهم العالم والليبيين بأن حضورها واهتمامها بالملف الليبي إنما هو من أجل وقوفها في وجه أطماع روسيا في هذه المنطقة، ومن أجل محاربة (الإرهاب) ومنه تنظيم الدولة الموجود في ليبيا.
ومع استمرار هذا الصراع على ليبيا دولياً ومحلياً، ومع اشتداد المعارك على الأرض وزيادة حدة الحرب الإعلامية بين الأطراف، فإن المشهد الليبي ما زال معقداً وغامضاً بعد هذه الحروب وبعد هذه الخلافات والانقسامات بين الأطراف المحلية من جهة وبين الأطراف الدولية والإقليمية من جهة أخرى، وحتى هذه الدعوات المتكررة من هنا وهناك بوقف إطلاق النار، وهذه التحضيرات لمؤتمر برلين ما زالت غير واضحة، وما زالت الأطراف المدعوة لحضوره غير معروفة، ومواعيد انعقاده غير محددة، بعدما كان يتداول أنه سيعقد في تشرين الثاني/نوفمبر ثم قيل في كانون الأول/ديسمبر ثم يقال الآن سيعقد في بداية العالم المقبل.
وربما كان تأجيل وتأخير انعقاده هو لإعطاء فرصة أخرى لحفتر لحسم الأمر عسكريا، وهو ما أشرنا إليه في بداية المقالة.
وما زالت الأيام والشهور القادمة حبلى بالأحداث والمفاجآت، فنسأل الله السلامة لبلادنا العزيزة ليبيا وسائر بلاد المسلمين، فهو نعم المولى ونعم النصير.
بقلم: الأستاذ محمد صادق
رأيك في الموضوع