بالنظر إلى حَراك الناس في لبنان، فقد تخطَّت مطالب المنتفضين مجرد المطالب الإصلاحية المعتادة خلال فترات ماضية، بل تعدتها إلى مطلب إصلاح النظام الحاكم من جديد بما يضمن محاربة الفساد، ومكافحة الفقر، ومعالجة البطالة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والخدمات مثل المياه والكهرباء، وحرمان الساسة الطائفيين من استغلال توزيع موارد الدولة لصالحهم، وبناء دولة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من جميع الأطياف والتيارات السياسية، فيما عُرف بمحاربة الطائفية السياسية.
وردد المنتفضون هتافاتٍ عابرةً للطائفية بعيداً عن التحيزات الضيقة للمذهب أو الطبقة، وكذلك رفض المنتفضون القرارات الإصلاحية الـ24 لرئيس الحكومة سعد الحريري التي أعلنها في 20 تشرين الأول 2019، قبل تقديمه الاستقالة في 29 تشرين الأول 2019، وذلك بهتافهم "كلن يعني كلن..."، في إشارة إلى ضرورة رحيل الطبقة السياسية الحاكمة بشكل كامل.
من المعروف أنهذه الاحتجاجات هي وليدة تراكماتٍ سلبيةٍ في الاقتصاد والسياسة، تسببت فيها حكومات متعاقبة تسهر على حماية مصالحها وديمومتها في الحكم على حساب مصالح الناس، وذلك مقابل إدارة ظهرها لمعالجة الأزمات، وتركها لمرحلة متأخرة تتحول فيها إلى قنابل موقوتة مما سبب:
- استشراء الفساد: إذ يحتل لبنان المرتبة 136 من إجمالي 180 دولة في تقرير منظمة الشفافية الدولية 2018.
- الانكماش الاقتصادي: فقد أفضت تراكمات الممارسات الاقتصادية إلى جعل لبنان ثالث أكثر الدول مديونية في العالم، إذ يبلغ إجمالي الديون المستحقة عليه خلال عام 2018 نحو 86 مليار دولار، وفق إحصاءات جمعية المصارف اللبنانية، وإلى تدني الإيرادات وتباطؤ النمو 0.2% خلال عام 2018 حسب صندوق النقد الدولي.
- غياب الخدمات: حيث يعاني لبنان من أزمة كهرباء دفعت الناس للاعتماد على المولدات غالية الثمن، ففي العاصمة يبلغ معدل انقطاع الكهرباء في اليوم ثلاث ساعات يوميّاً، بينما يصل إلى ما يقارب 20 ساعة يوميّاً في مناطق أخرى.
ومما ينبغي شد النظر إليه في هذا الحراك:
1- أن الطبقة الأكثر انخراطاً في الاحتجاجات اللبنانية هي طبقة شبابية أقل من 20 عاماً، جيل ما بعد 8 و14 آذار 2005 في لبنان. هذا الجيل من الشباب يقضون معظم أوقاتهم على شبكات التواصل، يقفون على مسافات بعيدة من عمليات التسييس والطائفية والمذهبية، ويركزون أكثر على الأوضاع المعيشية اليومية، ومواجهة الفساد، وطي صفحة وجوه أفراد وعائلات سياسية، ثبت إخفاقها وانعدام كفاءتها وتعاظم فضائحها، وهذا عنصر غاية في الأهمية ينبغي التنبه له واستثماره.
2- طغيان الطبقة الفقيرة - التي تشهد اتساعاً - والمتوسطة الدخل على الحَراك، والتي ترى أن النظام السياسي الذي تقاسم حصصاً طائفية ومذهبية، بات يعمل لصالح كل طائفة ومذهب على حساب محدودي ومتوسطي الدخل.
3- وضوح عدم وجود أفق للحل عند هذه الطبقة السياسية الفاسدة، وهنا ينبغي لنا لفت نظر الناس ليدركوا بأن هذه الأنظمة لا يَشغْلها ولا يُشغِلها سوى داعميها من الأطراف الخارجية، وخاصة أمريكا.
لقد وصل الأمر في السنوات الأخيرة بعد العام 2011، إلى بروز الناحية الطائفية والمذهبية، مما كان يؤذن بخطرٍ محدقٍ، حتى على مشروع قيام الدولة الإسلامية... لكن ما حصل ويحصل في لبنان اليوم، ولعل مثله في العراق، يكاد يقضي على هذا النبت الفاسد، الذي حاولت أمريكا الاستفادة من تبعاته، لتُبقي المنطقة على شفير الهاوية في وجه أي محاولة تغيير جدية في المنطقة، فأصبحت المسألة الأهم والأبرز التي ينبغي استثمارها اليوم، هي أنّ الناس ذاتها قد ضاقت ذرعاً، ولو نسبياً، بالحكم المذهبي، وعقدت النية على فضح التيارات والأحزاب والمليشيات المذهبية واحدة تلو الأخرى.
أما سياسياً، فيبدو من الواضح أن أمريكا تدعم عودة الحريري لاستلام رئاسة مجلس الوزراء، لكنها تتمهل لامتصاص غضب الشارع.
ويبدو من خطابات حسن نصر الله التراجع الواضح، بتنازله ابتداءً عن رفضه استقالة الحكومة، ثم إقراره بالحَراك ووجوده، وانخفاض مستوى خطاباته لناحية الشدة من خطابٍ لآخر، وصولاً في آخر خطاب لتحميل أمريكا كل الأمر، ولعل ذلك بسبب ما تزود به إيران حزبها في لبنان من معطيات تُفهمه من خلالها أنها تتعرض لضغط أمريكي شديد، وفي الوقت نفسه تطمينه أنه لن يتم المس بكيانه الحزبي، لذا تكررت العبارات التي يصف فيها نفسه ومقاومته بالقوة.
ولعل ما تم نقله، عن رئيس مجلس النواب نبيه بري في 12/11/2019، ونقله موقع LBCI عن جريدة النهار من تأكيده: "أن قوى الأكثرية النيابية قدمت لبن العصفور للحريري..."، فالراجح أن "لبن العصفور" الذي قدمه بري هو موافقة حزب إيران اللبناني وتسليمه بعودة الحريري، مما يؤمن الغطاء النيابي الكامل له، وطبعاً قد يشمل ذلك تسليم الحزب بحكومة "تكنوقراط" كاملة، أو "مستقلين" تسمي فيها كتلة الحزب أسماءها من "التكنوقراط" من غير الحزبيين.
أما لقاء عون المباشر في 12/11/2019، مع الصحفي سامي كليب ونقولا ناصيف، المعدودين على المحور الموالي للحكم، فيبدو أنه كان محاولةً لتلميع صورة النظام، لكن هذا اللقاء خرج في بعض سياقاته عما هو مقررٌ له، ولم يستطع رئيس الجمهورية، أن يضبط انفعالاته، كعادته، فطلب هجرة الناس، ووصف نفسه بصاحب التاريخ المشرق! وعمد لتخطئة شعارات المنتفضين، وهذا أمر ليس بالجديد على عون، لمن يراقب مجمل ظهوره الإعلامي، وتهجمه على المحاورين أو الصحفيين، وعدم قدرته على نسيان الجانب العسكري في شخصيته.
ولا يبتعد عن ذلك، محاولة توزير محمد الصفدي كرئيس للحكومة، وهو من الطبقة السياسية الفاسدة ذاتها، وهو على ما يبدو أُلهيةٌ ألقيت لتطويل أمد الأزمة من هذه الطبقة الفاسدة. لكن المنتفضين تمسكوا برفضه ورفض هذه الوجوه.
وهذا كله، يؤكد تروي الإدارة الأمريكية في الحل، لإمساكها بزمام الأمور في لبنان، وخاصةً بوجود نفوذها على الجيش وقيادته، لذلك نجد أن موقف الجيش ليس حاسماً مع الحَراك، بل فيه لينٌ إلى حدٍ ما، ليبقى لها - أي لأمريكا - كخط رجعة، حتى إذا لزم أن تغير استعلمته، وخاصةً إذا صار عميلها غير مستقرٍ وقلقاً لا يستطيع خدمة مصالحها كما تريد.
أما بعض المطالبات المبنية على ركوب موجة الحَراك من الأنظمة وأتباعها، أو يستغلها بعض من عندهم أجنداتٌ غربيةٌ غريبةٌ عن مجتمعاتنا،فكل هذه دعواتٌ شاذةٌ، وليست مطلباً للناس، تسقط عند أول منعطف، وهذا مثل الحق والباطل، الذي ضرب الله مثله في القرآن ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾.
بقلم: المهندس مجدي علي
رأيك في الموضوع