(مترجم)
كانت بريطانيا ولفترة طويلة صاحبة السيادة والهيمنة بإمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس، وفي ذروة حكمها بسطت هذه الدولة الجزيرة سيطرتها على أكثر من 25٪ من سكان العالم. لكن ذلك كان منذ زمن طويل، أما اليوم فإن بريطانيا تجعل من حالات ميؤوس منها مثل باكستان وبنغلادش وزيمبابوي تبدو في حالة جيدة. ولنضع أمام ناظرنا الحقيقة التالية - في عام 2019 سيكون الناتج المحلي الإجمالي للهند أكبر منه في بريطانيا. الهند التي كانت حتى وقت قريب دولة من دول العالم الثالث، وهي دولة استعمرتها بريطانيا سيكون لها اقتصاد أكبر من بريطانيا. لدى الهند كل الحق في أن تحل محل بريطانيا في الأمم المتحدة وفي المفاوضات التجارية. وستكون الهند التي كانت تخضع للاحتلال البريطاني أكثر أهمية في الاقتصاد العالمي، من الدولة التي استعمرتها ذات يوم. العالم يتغير، وفي بريطانيا أدى بها هذا العامل الأساسي إلى إعادة النظر في أن يكون الأهم في موضوع الاتحاد الأوروبي مكانة بريطانيا في العالم.
كانت الطبقة السياسية في بريطانيا على خلاف حول العضوية في الاتحاد الأوروبي ومقدار ما سيكون ذلك حقاً في صالح بريطانيا. خلقت هذه الفجوة حرباً أهلية داخلية مريرة استمرت ولا تزال منذ أربعين عاماً. كانت نتيجة التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي واضحة بعد التصويت لصالح ذلك، لكن على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، بذل الساسة المتعاقبون كل ما في وسعهم لتجنب الخضوع للنتيجة الانتخابية، فقد تأخروا في مغادرة الاتحاد الأوروبي، ووضعوا شرطاً بعد شرط في محادثاتهم مع الاتحاد الأوروبي ما جعل من الواضح الآن أن التصويت العام لا علاقة له بالموضوع الحقيقي وأن السياسيين لا يهتمون كثيراً برغبات الشعب.
يبدو أن موقف بريطانيا قائم على أن بقاءها في الاتحاد الأوروبي، يجب أن يكون ضمن صفقة تحصل فيها على كل فوائد الاتحاد الجمركي وسوقه الموحدة، في حين يتم تقييد الهجرة وتحافظ هي على المسافة بينها وبين الأمور التي لا تناسبها في الاتحاد الأوروبي.. إذا لم يتم التوصل إلى هذه الصفقة، سيكون الأفضل لبريطانيا أن تكون خارج الاتحاد الأوروبي. من المقرر أن تفشل المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول هذا الموضوع، حيث تطلب بريطانيا صفقة خاصة لا يملكها أي عضو في الاتحاد الأوروبي.
التحدي الذي يواجه بريطانيا هو أنه لا توجد حاجة تضطر الاتحاد الأوروبي إلى الخضوع لمثل هذه الشروط. فمن مصلحة الاتحاد الأوروبي الحفاظ على كينونته وإبقاء بريطانيا داخله حيث لم تغادره أية دولة. اليونان حتى في ذروة أزمة ديونها الاقتصادية وفي الوقت الذي كانت فيه ألمانيا تفرض شروطاً قاسية عليها إلا أن الرأي العام ظل في صالح بقاء اليونان في الاتحاد الأوروبي. ولكن مع استمرار المفاوضات ولمدة ثلاث سنوات، يرى الكثيرون داخل الاتحاد الأوروبي بريطانيا كطفل مدلل لا يستحق فوائد الاتحاد.
عرض الاتحاد الأوروبي صفقة على بريطانيا حيث يتعين عليها قبول الأوروبيين المناسبين للسفر إلى بلادها مقابل دخول السوق الموحدة والاتحاد الجمركي. لكن البرلمان البريطاني رفض قبول مثل هذه الصفقة لأن الهجرة كانت أحد الاعتبارات الرئيسية لأولئك الذين صوتوا لمغادرة الاتحاد الأوروبي. قدمت تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا السابقة هذه الصفقة إلى البرلمان ثلاث مرات على أمل أن تتم الموافقة عليها لكنها تعرضت للإهانة وأجبرت على ترك مكتبها.
جاء رئيس وزراء بريطانيا الحالي بوريس جونسون إلى السلطة بأوراق ضعيفة، وأوضح الاتحاد الأوروبي أنه لن يعيد التفاوض بشأن أي صفقة وأن ما تم عرضه على تيريزا ماي كان نهائياً. جاء جونسون إلى منصبه على خلفية حقيقة أنه كان على استعداد لإنزال بريطانيا من حافة الهاوية دون صفقة. لقد حاول فرض سيطرة الاتحاد الأوروبي. لطالما نظر الزعماء الأوروبيون إلى بوريس جونسون باعتباره أميناً غير أمين، مدفوعاً برغبات شخصية فقط. لقد حاولت حكومتا كل من ماي وجونسون باستمرار استبعاد البرلمان عن القيام بدور في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع تعليق بوريس للبرلمان في مجرد محاولة أخيرة.
كشف بريكست عن حقيقة الديمقراطية، ونظام حكم النخبة، ولصالح النخبة. بوريس جونسون يركز في الواقع الآن على وضع الأسس للانتخابات العامة التي لا مفر منها. ما كان المقصود منه أن يكون طلاقاً منظماً من الاتحاد الأوروبي قد تحول إلى عرض تلفزيوني يومي يحتوي على الكثير من التحولات والالتواءات والمنعطفات التي لا يمكن لأحد أن يتابعها.
وأيا كان الأمر، فإن الواضح هو أنه سواء أكانت بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي أم خارجه فإنها تتراجع عن مستواها في عصبة الأمم، إلى درجة ربما تنظر فيها الهند قريباً إلى بريطانيا بفوقية. كانت الوعود التي قطعتها الطبقة السياسية لمواطنيها مجرد خطاب رنان للانحراف بهم عن رغباتهم الحقيقية.
بقلم: الأستاذ عدنان خان
رأيك في الموضوع