عندما اغتصب البشير السلطة في 30 حزيران/يونيو 1989م أسمى نظامه بنظام الإنقاذ زوراً وبهتاناً، فما كان نظامه إلا لإنقاذ المشروع الاستعماري الأمريكي، للاستمرار في سلب خيرات السودان، وبالطبع لم تنس عصابته نصيبها من هذا السلب القيمي والمادي.
ويوم السبت 17 آب/أغسطس 2019م وقّع الغريمان المجلس العسكري الذي استلب السلطة، وقوى إعلان الحرية والتغيير على الوثيقتين الدستورية والسياسية، وقد سمي هذا التوقيع نهائيا حيث تتشكل به أجهزة الحكم ونظام الحكم ونوعه في فترة انتقالية تمتد لمدة 39 شهرا يتقاسم فيها المجلس العسكري وقوى التغيير السيطرة على الحكم 21 و18 على الترتيب.
لقد شهد هذا التوقيع لفيفٌ من قيادات إقليمية ودولية، وبدعاية واسعة لدرجة أن سمي هذا اليوم بالتاريخي، وأنه يوم (فرح السودان)! فهل فعلاً هذا التوقيع يحقق طموحات شعب السودان المسلم، الذي حُرِم من عدل الإسلام منذ مجيء الاستعمار وحرم من تطبيق الإسلام لثلاثين سنة من حكم الإنقاذ الظالم؟ هل غياب الإسلام عن حياته يفرح شعب السودان ويجعل ذلك اليوم يوم فرح لأن العدل قد بدأ ليرفع الظلم به؟ أم أن الذي تم هو فقط تغيير أشخاص مع بقاء النظام الظالم؟ بمعنى أن النظام الحالي هو امتداد للنظام السابق؟
نعم إنه بكل تأكيد أن يوم السابع عشر من آب/أغسطس هو يوم حزن! لأن المشروع الاستعماري لإقصاء الإسلام عن الحياة لهو نصر في مشروعه في ذلك اليوم؛ فكما خدع الإنقاذ أهل السودان ثلاثين سنة برعاية أمريكا، وأقصى الإسلام عن الحياة بالعلمانية الملتحية ها هي ذي العلمانية غير الملتحية تتقلد مقاليد الحكم وتتربع فيه بكلكلها وتوهم الشباب ومن تغنى لها بأنها الفرح والنصر، وما هي إلا أيام قلائل وتتبدى فيها الخديعة.
في السابع عشر من تموز/يوليو كان التوقيع بالأحرف الأولى وكان في غرفة أخرى يتابع السفراء الأمريكي والبريطاني والإماراتي والسعودي مجريات النقاش والتوقيع بالأحرف الأولى على الوثيقة الدستورية، التي تم التوقيع النهائي عليها بعد شهر. إن الطرفين الدوليين صاحبي المشروع الاستعماري حرصا كل الحرص أن لا يتغير نظام الإنقاذ العلماني واستخدما في سبيل تحقيق ذلك كل الأدوات المتاحة.
إن الصراع على النفوذ بين أمريكا وبريطانيا في السودان معلوم، وأن أمريكا وقفت مع المجلس العسكري من أول يوم معلوم، وأن نفوذها في السودان يمر عبر قيادات عسكرية كالبشير مثلا لا يخفى، وأن بريطانيا تصارع من أجل قلع هذا النفوذ عبر قوى إعلان الحرية والتغيير واضح من تصريحاتها وأعمالها قبل الحراك وأثناءه.
ولكن أهم ما تريده أمريكا هو المحافظة على علمانية الدستور، وما تمخض عنه من نظام والعمل على إلغاء كل القوانين التي تتعارض مع فصل الدين عن الحياة. ولعل مما لا يدع مجالا للشك أن الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها تكرس حتى للمكتسبات الاستعمارية التي أدخلتها أمريكا على السودان كفكرة الحكم اللامركزي (الفدرالية) التي كسبت منها كسبا استعماريا أقله فصل جنوب السودان.
إن التفكير السياسي السوي للتغيير إنما يكون بالنظر إلى النظام هل هو فاسد، هل هو باطل، أم هو صحيح؟ ومن ثم يكون التغيير للنظام والأشخاص أو للأشخاص فقط وذلك عند صلاح النظام. فنظام الإنقاذ كان باطلا وفاسدا، أشخاص النظام وقعوا في جرائم لا تحصى تستحق العقوبة، فكان هذا التغيير المزعوم تغييراً للأشخاص مع بقاء النظام.
في الفقرة الأولى من مشروع الوثيقة ينص على أن الدولة وطنية ديمقراطية... وتعترف بالتنوع وأن المواطنة أساس للحقوق والواجبات.. إن هذا الكلام المنصوص عليه في هذه الفقرة يبين أن الدولة ليس أساسها الإسلام بل المواطنة التي تعترف بالتنوع، وهي عينها العلمانية التي تقصي الإسلام عن الحياة، فالفكر الغربي يعي تماما عظمة الإسلام ودقة أحكامه التي لا تسمح إلا أن يكون الإسلام وحده هو أساس الحقوق والواجبات، وأن الإسلام لا يعترف بالتنوع المقصود في الدساتير، وهي تعني استواء كل الأديان في الفكر الرأسمالي العلماني، فالإسلام والنصرانية واليهودية والوثنية كلها سواء ولا فضل لبعضها على بعض، فبالتالي يجب إقصاؤها جميعا من الحكم وفي النظر إلى سائر الأمور والأحكام... هذا مع أن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فالاحتكام إلى الإسلام واجب، والاحتكام إلى التعدد والتنوع هو فصل الدين عن الحياة التي ذمها المولى سبحانه بقوله تعالى ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
إن التنوع يعني الاعتراف بصحة كل الأديان وجواز الدعوة لها ونشرها وحريته في ترك الإسلام ونشر الإلحاد، بل الاعتراف بالشواذ جنسيا! لذلك لا نستغرب إن جاء يوم في السودان ويطلب فيه كما في أوروبا أن تكفل حقوق للشواذ جنسيا والملحدين، وأن تكون لهم رايات وجمعيات وأعمال تحت رعاية الدولة.. هذا هو التنوع الذي يجعل السيادة للإنسان والتي نص عليها بالسيادة للشعب في الفصل الأول المادة (4).
في الفصل الأول المادة 2 (أ) يلغى العمل بدستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005م ودساتير الولايات، على أن تظل القوانين الصادرة بموجبها سارية المفعول ما لم تلغ أو تعدل. وهذا يعني أن النظام الاقتصادي الظالم الذي يقوم على الجبايات سيظل مستمراً، من جمارك محرمة وضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات، والتي أدت إلى الغلاء، وأن مجانية التعليم والعلاج لن تكون، وهي عينها استمرار للنظام الرأسمالي الظالم.
هناك دعاية واسعة أن من يعتلي منصب رئاسة الوزراء ووزارة المالية لهم علاقات واسعة بمؤسسات التمويل الدولية!! أليست هذه المؤسسات المالية الدولية هي التي أشقت شعوب ما يسمى بالعالم الثالث؟ ألم يوقعوا السودان في مصيدة الديون الربوية؟ ألم يسيطروا على اقتصاد السودان بل أحدثوا فيه ضرراً هيكليا؟ ألم يشهد جون بيركنز وهو منهم في كتابه الاغتيال الاقتصادي للأمم كيف لهذه المؤسسات من دور في اغتيال الأمم اقتصاديا؟ إن هذا لهو إنذار شؤم بالفساد الاقتصادي والشخصي للتغيير المزعوم الذي لم يتم أصلا.
هذه جزئيات في نقض هذه الوثيقة ويكفينا الأساس الباطل الذي بنيت عليه. وبالتالي فإن فرحنا لن يكتمل إلا بتغيير هذا النظام الوضعي الذي يشرف عليه الكافر المستعمر، وإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، ويومئذ يفرح المؤمنون.
بقلم: الأستاذ عبد الله عبد الرحمن (أبو العز)
عضو مجلس حزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع