أعلن الوسيط الأفريقي محمد الحسن لبات، عن توصل المجلس العسكري الانتقالي، وقوى الحرية والتغيير إلى اتفاق نهائي بشأن مضمون الوثيقة الدستورية لتسيير المرحلة الانتقالية، وقال لبات خلال مؤتمر صحفي بتاريخ 2/08/2019م في قاعة الصداقة، بثّه التلفزيون الرسمي (أعلن للرأي العام السوداني والدولي والأفريقي أن الوفدين قد اتفقا اتفاقا كاملا على المشروع الدستوري)، دون أن يشير إلى تفاصيل الاتفاق، وأضاف (أن الطرفان عاكفان على إعداد الترتيبات الفنية للتوقيع النهائي على الوثيقة). كما أشار التلفزيون إلى أن الطرفين (بدءا مناقشة وثيقة السلام الموقعة مع الجبهة الثورية)، في إشارة إلى الاتفاق الموقع في أديس أبابا بين قوى الحرية والتغيير وثلاث حركات مسلحة سبق أن أبدت تحفظات على الإعلان السياسي الموقع في 17 من الشهر الماضي. وعلى إثر ذلك خرج الناس يرحبون بهذا الإعلان الذي وصفه ائتلاف قوى الحرية والتغيير بأنه "خطوة أولى".
لقد تفنن ما يسمى بإعلان قوى الحرية والتغيير، منذ بداية الحراك الجماهيري، في الترويج لفكرة الدولة المدنية، وأكسبوها زخماً إعلامية كبيراً، ووضعوا الناس بين خيارين لا ثالث لهما، إما حكم (العسكر) الدكتاتوري الظالم المستبد، أو (مدنية) تطلق الحريات، ضد الكبت وتكميم الأفواه، وتعطي الحكم للأغلبية، بدل استبداد الفرد، كما يزعمون، وهكذا أكسبوها زخما إعلامياً، غير أنهم خدعوا الناس بأن الدولة المدنية لا تتعارض مع الإسلام، وأنها لا تعني العلمانية!! حتى توهم الناس بأن ذلك هو المخرج، وطوق نجاة للوضع السياسي والاقتصادي المتردي الذي يعيشه أهل السودان، وساعدهم في ذلك ممارسات المجلس العسكري ضد المتظاهرين العزل، لقد ظل هذا المجلس يمارس سياسات النظام البائد نفسها، مما لا يدع مجالاً للشك بأنه امتداد له، هذه الأجواء الملبدة والمشحونة ساعدت على انتشار فكرة الدولة المدنية، وأكسبتها رأياً عاماً، مما جعل الناس يتشبثون بها.
وكل هذا وغيره من العوامل، غيرت مسرى الحراك الجماهيري، ووجهته لتحقيق أهداف وأجندة غير منظورة لدى جموع الثائرين في بداية اندلاع الثورة عندما كانت تنادي بـ(تسقط بس)، ولكن استطاعت هذه القوى والأحزاب السياسية، الركوب على موجة الثورة وتوجيه غايتها لتحقيق مكسب لم تكن تحلم به بفكرة (الديمقراطية)، فهذه الأحزاب وهؤلاء السياسيون الذين يقودون هذه المفاوضات والاتفاقات، ما كانوا يحلمون ولو لمرة واحدة أن يصلوا إلى كراسي الحكم التي يتفاوضون عليها لا بالانتخاب ولا بغيرها، لأنهم يحملون فكرا يناقض عقيدة الناس ومبدأهم، ولن يستطيعوا أن يجهروا به.
وهنا نتساءل، هل هذه الاستجابة الجماهيرية لقوى الحرية والتغيير هي حقيقية، أم هي سحابة صيف ستذهب وتترك الشمس عارية تسقط هجيرها على الناس؟ فكما انطلت كذبة النظام البائد وخداع الناس بشعارات الإسلام سنين وسنين، فهذه الجماهير خرجت رافضة للظلم والطغيان دون وعي، فهي تشبثت بما هو ضد الحكم الاستبدادي الذي يجثم على صدورهم منذ غياب الخلافة.
فهل هذا الاتفاق سيحل مشكلة أهل السودان؟ وهل عندما يعتلي السلطة أشخاص مدنيون ليس عسكريين هو الحل لأزمات السودان السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، يجب معرفة من أي الزوايا يجب أن ننظر بها لهذا الاتفاق؟ وعلى أي مقياس نقيس به هذا الاتفاق والوثيقة الدستورية المطروحة؟ كما لا ننسى الأجواء التي تم فيها الاتفاق والمرجعية التي كانت أساس التفاوض بين الجانبين؟ فنقول وبالله التوفيق:
1/ لقد ظل المجلس العسكري منذ أن تولى زمام الأمور يعيث في الأرض الفساد وينشر الظلم ويحكم بغير ما أنزل الله، والله سبحانه يقول: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ويقول الرسول e: «وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا». فالحكم ليوم أو يومين يجب أن يكون بحقه، أي وفق ما أنزل الله.
2/ لم يكن هذا المجلس يوما يسعى لحل مشاكل أهل البلاد والدليل أنه ظل سائراً على نهج النظام السابق، فظل يقتل المتظاهرين بالرصاص الحي لتركيعهم، فقتل المئات في فض الاعتصام، واستمر هذا السيناريو حتى آخرها بمدينة الأبيض، غرب السودان، حيث قتل الطلاب الأبرياء العزل، ثم تلتها أحداث أم درمان، فكيف لحاكم أن يقتل شعبه؟ قال رسول الله e: «والذي نفسي بيده، لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا».
3/ إن هذا المجلس يسير على ما يرضي أسياده الأمريكان الذين وضعوه على كف السعودية ومصر، فهو ينفذ ما تملي عليه أمريكا فنرى ونشاهد علاقاته بالقائم بالأعمال الأمريكي في السودان، ومبعوث وزارة الخارجية الأمريكية، والمبعوث الخاص للسودان (بوث)، لتوجيه البوصلة الوجهة الأمريكية.
أما قوى الحرية والتغيير فهم أيضاً لم يطرحوا أية حلول لمشاكلنا على أساس الإسلام، وليس لديهم أي تصور مبدئي لحل مشاكل السودان بل نراهم لا يفكرون إلا بطريقة الرأسماليين نفسها، ولا ينظرون للأشياء من حولهم غير النظرة نفسها التي أوقعتهم في شراك الغرب، فكان من نتائجها أن فقدت الثورة توازنها، وأصبحت فاقدة للبوصلة التي توجه حراكها ونضالها الذي أطاح بحكومة البشير، فتحول هذا التغيير إلى ثورة مضادة، أعادت إنتاج النظام نفسه فوقع أهل السودان في نظام الظلم القديم نفسه، والذي يطرحونه الآن هو إفراغ لقوالب الحكم السابقة وملئها بأشخاص جدد، بالمهام والتكاليف نفسها.
ثم إنهم يناضلون العدو من أجل عدو آخر، ويحاربون الأخ من أجل العدو، ويصارعون الظلم والظلام لتكون النتيجة العيش في ليل أشد ظلمة، والمقصود أنهم يحاربون العلمانية التي يطبقها العسكر ليثبتوا علمانية أخرى يطبقونها هم، لينقلونا من عمالة العسكر وموالاتهم لأمريكا إلى عمالة الأوروبيين، فكلها سواء ويكفي في ذلك جلوسهم مع السفير البريطاني وسماعهم لما يقول مع أن توجههم هو توجهه وينادون بأنظمتهم نفسها!
بالإضافة إلى ذلك كله، نراهم يجلسون مع أعضاء المجلس العسكري، يفاوضونهم ويتبادلون معهم الضحكات والهمزات، ليس لأجلنا بل لأجل كرسي حكم معوجة قوائمه، فأصبح يسيل لعابهم من أجل هذه المناصب.
فلا خير في هذا ولا في أولئك ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾، لا في المجلس العسكري، ولا في الحرية والتغيير، لأنهم لم يأتوا بالحلول من القرآن العظيم، ولأنهم لم يجعلوا الوحي أساساً في مفاوضاتهم، ولا الحلال والحرام مقياساً لأعمالهم ومواقفهم، ولأنهم عندما تنازعوا لم ينظروا إلى الآية﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، بل ردوه إلى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومن ورائهما أمريكا، فالحل يكمن في الإسلام عبر دولته دولة الخلافة الراشدة حصرا.
بقلم: الأستاذ سليمان الدسيس
عضو مجلس حزب التحرير/ ولاية السودان
رأيك في الموضوع