مات الباجي قايد السبسي يوم 25/07/2019، وكثر الحديث عمّن يكون مناسبا لرئاسة تونس، وكثرت التساؤلات عن المشهد السياسي بعد رحيله، كيف سيكون؟ ومبررات هذا السؤال تنطلق من موقع السبسي في المشهد السياسي التونسي بشكل عامّ ومن تحرّكاته بعد 2011 بشكل خاصّ. فهل كان الباجي صانعا للمشهد السياسيّ في تونس ومؤثّرا فيه؟ وما الذي سيتغيّر بعد هلاكه؟ خاصّة وأنّه المؤسس الرئيس لحزب نداء تونس الذي "فاز" في انتخابات 2014؟
المشهد السياسيّ في تونس قبل الثورة:
من المعلوم أنّ الوسط السياسي في تونس تسيطر عليه أوروبا وبخاصّة بريطانيا منذ أن أوصلت عميلها بورقيبة إلى الحكم في 1956، ثمّ استبدلت به عميلا آخر هو بن علي سنة 1987، فكان بورقيبة ومن بعده بن علي يسيطران على البلاد بواسطة حزب واحد (الحزب الدستوري الذي تحوّل مع بن علي إلى حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي) يتغلغلون به في مفاصل المجتمع والإدارة فلا تفلت منهم شاردة ولا واردة، وكان التخويف والتهديد أو الإغراء هي وسيلة هذا الحزب في السيطرة على الأوضاع، وقد كان يجمع الوسط السياسيّ العلمانيّ. واستطاع في كلّ مراحله أن يقصي كلّ خصومه ويسدّ المنافذ على المعارضين. أمّا عن مكانة السبسي في هذا المشهد السياسي، فقد كان أحد الذين يعوّل عليهم بورقيبة وكان حاضرا بشكل دائم خادما وفيّا لبورقيبة. وكان حاضرا في أوّل عهد بن عليّ (الدورة البرلمانيّة الأولى من 1988 إلى 1993) كرئيس لمجلس النّوّاب، ثمّ غاب عن المشهد لكبر سنّه ولعدم الحاجة إليه وقتها.
اختلال المشهد السياسي واضطرابه في سنوات الثورة الأولى
تفكّك الحزب الحاكم الذي كان أداة بريطانيا في الهيمنة على البلاد وعلى الوسط السياسيّ بالثورة فتخلخلت أركان العلمانيين وتشتّتوا، وفقدوا نفوذهم وصار كثير منهم لا يجرؤ على الظّهور العلني في بداية الثورة.
وتوجّه النّاس في البداية إلى حركة النّهضة لصفتها الإسلاميّة ولعداوتها مع الحزب الحاكم، واكتسحت الحركة انتخابات 2011 ولولا قانون انتخابيّ ماكر وخبيث لشكّلت النّهضة أغلبيّة مريحة في المجلس التأسيسيّ. اختلّ المشهد السياسيّ وبان أنّ العلمانيين لا يستطيعون مشتّتين الوقوف في وجه النّهضة، فعملت بريطانيا على إيجاد نوع من التّوازن في المشهد السياسيّ لا تترك فيه النّهضة في صدارة المشهد لأنّ الصّفة الإسلاميّة للنّهضة تخيف بريطانيا رغم أنّها احتضنت حركة النّهضة في لندن ودجّنت رجالاتها وصنعت فيها قيادات، وهي سياسة قديمة لبريطانيا أن تستعمل حين الحاجة أبناء البلد والإسلام من أجل ضرب الإسلام، فاستعمالها للنّهضة ذي الصفة الإسلاميّة إذن اضطرار تريده أن يكون مؤقّتا.
إقحام السبسي على المشهد السياسيّ بعد انتخابات 2011
ثمّ عملت بريطانيا على تجميع العلمانيين المشتّتين الموالين لها لتعيدهم للصّدارة وليشكّلوا مشهدا سياسيّا "متوازنا" فأمرت الباجي قايد السبسي بتشكيل حزب نداء تونس حيث جمّع فيه أغلب الوسط السياسيّ القديم ولكنّه في البداية لم يستطع الظّهور ولا حظي بالقبول رغم الدعاية الواسعة والأموال الكثيرة، فجاءت الاغتيالات السياسيّة التي هزّت البلاد مع مطلع 2013: اغتيال شكري بلعيد أحد رموز اليسار البارزين ثمّ اغتيال محمّد البراهمي (قومي) فقفز الباجي قايد السبسي وتحالف مع الجبهة الشعبيّة اليساريّة ليركب الموجة مستغلّا ضعف موقف النّهضة وارتباكها في الحكم وفشلها في تسيير البلاد وعدم قدرتها على استيعاب الاحتجاجات التي كانت قائمة حينها، فكان اعتصام الرّحيل الذي أنفق عليه أصحاب المال بسخاء وجمّعوا فيه كلّ العلمانيين ومن كان رافضا للنّهضة وكلّ الانتهازيين، وتنازلت النّهضة فاستقالت حكومة علي العريض وتكوّنت حكومة انتقاليّة (حكومة المهدي جمعة) بإشراف الرباعي الراعي للحوار (الاتّحاد العام التونسي للشغل، وعمادة المحامين، واتّحاد الأعراف، والمنظّمة التونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان).
هكذا تمكّنت بريطانيا أن توجد للحزب الجديد (الحرس القديم) مكانا موازيا لمكان النّهضة، وبهذه التوليفة تشكّل المشهد السياسي غداة انتخابات 2014 التشريعيّة والرئاسيّة، مع ملاحظة أن هذا التشكيل للمشهد السياسيّ كان بمشاركة فعّالة من النّهضة والغنّوشي بعد لقاء باريس الشهير وإعلان سياسة "التوافق" ودعم الباجي قايد السبسي في الانتخابات الرئاسيّة.
هكذا كان صعود نداء تونس وفوزه بانتخابات 2014 رئاسيّة وتشريعيّة، وهكذا تمكّن الباجي من الوصول للرئاسة بمساعدة النّهضة. وكان واضحا أنّ دور السبسي هو تجميع شتات العلمانيين والرافضين للإسلام، وواضح أنّ مقصود بريطانيا كان عدم ترك حركة النّهضة وحيدة في الساحة بل أرادت أن تعيد الحرس القديم إلى الساحة السياسيّة.
وهكذا كان. ولكن...
انتهاء مفعول السحر وأعيت حالة العلمانيين من يداويها:
تفكّك نداء تونس وتشظّى ففرّخ حزب "مشروع تونس" ثمّ لاحقا "تحيا تونس"، أما بقيّة الحزب فقد انشقّ نصفين تخاصما خصاما طويلا في الإعلام وفي قاعات المحاكم وآل الأمر إلى أن انتصر شقّ حافظ قايد السبسي ابن الرئيس الباجي، أمّا الشقّ الآخر فانمحى ويبدو أنّه يبحث عن حزب آخر يندمج فيه، هذه الانقسامات يبدو أنّها لم تكن في حسبان الباجي ولا في حسبان بريطانيا، إذ أضعفت الحزب وزادت في تشتّت العلمانيين وفي خصوماتهم، وحاول الباجي مرارا السيطرة على الوضع حتّى آخر أيّامه ولكنّه فشل فشلا ذريعا في توحيد الحزب من جديد، وذلك نظرا لشدّة الصّراع بين القيادات فكلّ واحد منهم يريد أن يكون له نصيب من كعكة الحكم والحال أنّ الكعكة لا تكفيهم جميعا وهذه عقبة كأداء هي التي أفشلت مساعي السبسي وأفقدته قدرته السياسيّة وهي قدرة فقدها بالتدريج منذ سنة 2014 ومنذ أواخر سنة 2016 صار واضحا عجز السبسي عن التّأثير في جماعته.
وهنا يمكننا أن نقول إنّ الباجي قايد السبسي ميّت تأخّر دفنه ذلك أنّه منذ 2016 ما عاد يستطيع أن يقوم بدوره الموكول إليه. ويبدو أنّ بريطانيا لم تجد بديلا عنه يقوم بالدور نفسه في تجميع العلمانيين فضلا عن جعلهم قوّة سياسيّة يمكن التعويل عليها.
النّهضة ودور العرّاب
سيظلّ التفكك في الوسط السياسي هو المهيمن، ممّا يجعل الحرس القديم غير قادر على تشكيل المشهد السياسيّ، فكان التعويل على حركة النّهضة ضروريّا لبقيّة من القدرة على تحقيق شبه استقرار للبلاد وضمان تنفيذ مخطّطات الإنجليز، وهو ما جعل بريطانيا تسند النّهضة، وأوكلت إلى رئيسها خاصّة مساندة شقوق من العلمانيين (يوسف الشاهد وحزبه تحيا تونس) حتّى يكون لهم وجود.
وهذا يعني أنّ حركة النّهضة ستكون العماد الذي ترتكز عليه السياسة الاستعماريّة في تونس وستظلّ (على الأقلّ في الوقت الراهن) الضامن لتطبيق برامج المستعمرين، خاصّة بعد أن جعلوها تعلن انسلاخها عن الصّفة الإسلاميّة. ويبدو من تصريحات قيادات النّهضة وبخاصّة رئيسها راشد الغنّوشي أنّه مستعدّ للقيام بالدّور بدليل أنّه تقدّم للترشّح للانتخابات التشريعيّة ويبدو أنّ النيّة متّجهة لترشيحه للرئاسيّات بديلا للسبسي، رغم التردّد وغموض موقف النّهضة من الانتخابات الرئاسيّة الذي ظلّ يتأرجح بين ترشيح واحد من داخل النّهضة وهو في هذه الحالة رئيسها أو ترشيح "عصفور نادر" من خارجها وهذا النّادر ينبغي أن يكون علمانيّا مقبولا عند كلّ الطّيف العلماني وأن يكون منسجما مع النّهضة.
المنظّمات النّقابيّة ودور تعديل كفّة الميزان:
لن تكتفي بريطانيا بالتعويل على حركة النّهضة رغم إعلانها فصل الدين عن السياسة، فأوكلت للاتّحاد العامّ التونسي للشغل (وهو أكبر منظّمة نقابيّة في تونس) دور امتصاص الغضب وتوجيهه كما أوكلت إليه دور تعديل كفّة الميزان إن هي رجحت أو أنذرت باختلال، وسيظلّ هذا دوره، ولقد أعلن نور الدّين الطّبّوبي أن الاتّحاد سيُشارك بفعاليّة في الانتخابات القادمة وفسّر هذه المشاركة فقال إنّها لن تكون بترشيح قائمات عن الاتّحاد إنّما ستكون بالمراقبة والمساندة، وهذا هو بالضبط دور تعديل كفّة الميزان.
وختاما:
هذا هو المشهد العامّ في تونس؛ هو مشهد تديره القوى الاستعماريّة بشكل شبه مباشر أمّا الأحزاب والمنظّمات والشخصيّات السياسيّة مثل السبسي فليس لها إلا التنفيذ، ويُقاس العمر السياسي للشخصيّة عندهم بقدرته على القيام بدوره فإن هو عجز فمآله الإزالة والتبديل ولو بعد حين، وهكذا كان السبسي قام بدور "فعّال" لفائدة البريطانيين إلى غاية 2016 ولم يبق له من دور منذ ذلك الحين إلا محاولة إثبات نجاح النموذج الديمقراطي في تونس ومظهره الانتقال السلمي للسلطة في تونس، فاستغلّوا موته في مدح النّموذج الديمقراطي.
بقلم: الأستاذ محمد الناصر شويخة
رأيك في الموضوع