وسط محاذير من الجانبين، وبوساطة أفريقية إثيوبية، ودبلوماسية أوروبية أمريكية، توصل المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير إلى اتفاق بشأن تقاسم السلطة خلال فترة انتقالية مدتها 3 سنوات و3 أشهر، حيث اتفقا على تشكيل مجلس سيادي من 6 مدنيين و5 عسكريين، ومجلس وزراء مدني، بينما أُجل تشكيل المجلس التشريعي لوقت لاحق. وسيقود جنرال في الجيش البلاد خلال الأشهر الـ21 الأولى من المرحلة الانتقالية، يليه مدني لمدة 18 شهراً التالية من عمر الفترة الانتقالية، وعلى الرغم من توقيع الطرفين على الاتفاق، فلا يزال هذا الاتفاق قيد الأخذ والرد، يتعلق ببعض البنود المختلف عليها.
ويبدو أن القوى الدولية لها اليد الطولى في التوصل لهذا الاتفاق، وبخاصة أمريكا وبريطانيا، فقد كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" السبت 06/07/2019م في تقريرها عن (جولة مكثفة لدبلوماسية عملت في الغرف المغلقة، عمادها تحالف قوى خارجية، لم تكن جميعها في السابق موحدة في موقفها ورؤيتها لمستقبل السودان). ونقلت العربي الجديد عن نيويورك تايمز (اجتمع دبلوماسيون لاستضافة لقاء سري في الخرطوم، في منزل أحد كبار رجال الأعمال، بهدف كسر الجليد بين الجانبين، اللذين سُطرت خلافاتهما بـ"الدم"، بحسب تعبير "نيويورك تايمز" وخلال الاجتماع، كان التوتر عالياً). كما أن أمريكا قد أوفدت مبعوثها الخاص دونالد بوث للسودان للضغط على التفاوض المباشر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لصالحها، نشرت صحيفة أخبار اليوم 26/6/2019، أن بوث عقب لقائه بالمجلس العسكري (شدد على ضرورة التفاوض المباشر بين الطرفين). وقد نشرت صحيفة الأهرام اليوم تقريراً في 16/6/2019م بعنوان: "تحركات أمريكا هل تفلح في إنقاذ السودان؟" وكان مما جاء فيه: (كثيرون أعابوا على الفرقاء في السودان لجوءهم للحل الخارجي).
وقدم مسؤولون غربيون وسودانيون، رفضوا الكشف عن أسمائهم، تفاصيل لـ"نيويورك تايمز"، عن الاجتماع الذي أفصح عنه للمرة الأولى المبعوث الأمريكي للسودان دونالد بوث. وبحسب سكاي نيوز في 06/07/2019 (أشارت واشنطن إلى أن المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان دون بوث سيستمر في دعم الوساطة الأفريقية الإثيوبية).
ويرى محللون أن المدنيين (وهم عملاء بريطانيا)، تنازلوا عن الكثير في الاتفاق. قال بايتون نوف، وهو مستشار برنامج أفريقيا في المركز الأمريكي للسلام إنه "لا مؤشرات تدل على أن السيطرة على موارد السودان، وآلية اتخاذ القرارات، والسلطات الأمنية ستكون بيد المدنيين"، معتبراً أن الاتفاق يفسح المجال خصوصاً أمام حميدتي والعسكر (عملاء أمريكا) لتمتين سلطتهم" العربي الجديد 06/07/2019م.
وسط هذه التدخلات الدولية، وُقع الاتفاق، وعلى الفور أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بياناً قالت فيه (إن الاتفاق بين الطرفين يمثل خطوة هامة)، وتتطلع أمريكا حسب بيان خارجيتها إلى(المضي قدما نحو إجراء انتخابات حرة ونزيهة) وبحسب صحيفة التغيير الإلكترونية في 13/07/2019، يفيد تقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية (أن الولايات المتحدة تدعم اتفاق تقاسم السلطة في السودان... وتوضح أن أمريكا تلقي بثقلها خلف هذا الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين ممثلي المعارضة والمجلس العسكري). وتنسب الصحيفة إلى تيبور ناغي مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون أفريقيا (أن الاتفاق بمثابة خطوة إلى الأمام).
أما بريطانيا، فقد وصف وزير خارجيتها جيريمي هنت اتفاق الخرطوم بـ"اللحظة التاريخية" وقال في تغريدة على تويتر، (إن الاتفاق يمهد الطريق إلى الحكم المدني).
بالرغم من هذه التأكيدات إلا أن هناك جملة من التهديدات والمخاطر ستواجه هذه التسوية وفترتها الانتقالية، ألخصها فيما يلي:
أولاً: الركون إلى العدو، واعتباره ناصحاً أميناً، حيث اعتمدت الأطراف على الدبلوماسيين والوسطاء في مسألة القبول والرفض، فلم يكن الطرفان ذاتيين في مواقفهما، بل اعتمدا على الكافر المستعمر في الاتفاق، وتجاهلا عداوة أمريكا، وبريطانيا. وهذا وحده كاف لنسف هذا الاتفاق جملة وتفصيلا.
ثانياً: الشك وعدم الثقة: فمن المعلوم أن المجلس العسكري هو امتداد للنظام البائد، أما قوى الحرية والتغيير، فهم عبارة عن سماسرة سياسيين معارضين، وحركات مسلحة وغيرها، تسعى للحصول على كراسي الحكم، قررت التحالف أثناء الحراك وقبله، بهدف إسقاط البشير، فالمجلس العسكري أوضح تماماً أنه لا يثق مطلقاً في قوى الحرية والتغيير، وتحدث عن وجود أجندة خفية إقصائية لديهم، وفي المقابل، تشكك قوى الحرية والتغيير في نيات المجلس العسكري فيما يتعلق بتفكيك مؤسسات النظام ودولته العميقة (الدعم السريع وجهاز الأمن وغيرهما). والتخوّف من مخطط للبقاء في السلطة والتراجع عن الاتفاق في أي لحظة. ولو أنهما جعلا العقيدة الإسلامية أساساً، وتحاكما إلى الله وإلى الرسول، لزال الشك، ولوجدوا أحكام الإسلام رحمة للعالمين.
ثالثاً: احتمال حدوث انشقاق داخل "الحرية والتغيير" فعلى الرغم من التأكيدات الشفهية من قياداتها بوحدتها، إلا أنه لا توجد رابطة مبدئية تجمعهم، ولا انسجام فكري بين هذه الكتل، فقد اجتمعت على تقاسم السلطة مع بقايا النظام السابق في هذا الاتفاق، فإذا اختلف القوم على التمثيل في مؤسسات الحكم الانتقالي، سيحدث انشقاق داخل قوى الحرية والتغيير نفسها، وخروج ممثل الجبهة الثورية من كتلة الحرية والتغيير، ومطالبته بمفاوضة العسكري منفرداً يؤكد ما ذهبنا إليه، وهذا سيكون له تأثيره الكبير على تنفيذ الاتفاق، وبالتالي على مجمل ما يجري في الفترة الانتقالية، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون!
رابعاً: التحركات التي قد يقف على رأسها حزب المؤتمر الوطني (الغائب عن الساحة السياسية الآن)، وبعض رموز النظام السابق، فبعضهم لا يزال يملك السيطرة على مفاصل الدولة العميقة، ولا يُستبعد أن يتحرك لإفشال خصومه الذين أزاحوه بعد 30 سنة من الحكم.
خامساً: انهيار الاقتصاد وعدم قدرة الحكومة الانتقالية لإدارة البلاد:
شكّل تراجع الأحوال المعيشية للسودانيين وغلاء الأسعار وندرة السلع الضرورية وشحّ العملة، إضافة إلى تدهور الخدمات الصحية والتعليمية، وتدهور المرافق، عاملاً مهماً في اندلاع الثورة الشعبية ضد النظام البائد. وبما أن الحكومة الانتقالية بشقيها العسكري والمدني لا تملك تصوراً مبدئياً واضحاً للحكم، فمن المتوقع حتماً استمرار تلك الأوضاع، ويعتبر هذا تهديدا حقيقيا خلال الفترة المقبلة، لا سيما أن نظام البشير خلّف تركة مثقلة بالفشل الاقتصادي والفساد المالي والإداري، إلى أدنى مستوياتها في تاريخ السودان...
لذلك يمكن القول إن هذه الاتفاقية التي ستتولد عنها حكومة انتقالية، غير قابلة للصمود ما دام السودان دولة وطنية تسير خاضعة للأنظمة الغربية الرأسمالية، مع وجود صراع بريطاني أمريكي في السودان.
أما الإجراء الشرعي فهو بأن ينحاز المخلصون في الجيش لحراك الشعب، وإعطاء النصرة لحاملي مشروع النهضة الحقيقي، وهو حزب التحرير الذي يسعى بين الأمة ومعها، لإقامة هذا الصرح العظيم، تسعد في ظله البشرية جمعاء تحت أحكام الإسلام.
بقلم: الأستاذ يعقوب إبراهيم (أبو إبراهيم) - الخرطوم
رأيك في الموضوع