وجه الرئيس الجزائري الانتقالي عبد القادر بن صالح يوم الأربعاء 03/07/2019م خطاباً للشعب بمناسبة الذكرى المزدوجة الـ57 لما سمي عيد الاستقلال والشباب التي تحل في الخامس من شهر تموز/يوليو من كل عام، دعا فيه جميع مكونات الطبقة السياسية والشخصيات الفاعلة في المجتمع والمهيكِلة للمجتمع المدني في الجزائر إلى الانخراط في مسار حوار وطني شامل تعتزم الدولة إطلاقَـه من أجل التوصل إلى إيجاد حل لتجاوز حالةِ التأزم والانسداد على خلفية ما تشهده البلاد من حراك ينشد تغيير منظومةِ الحكم برمتها. إلا أن خطاب الرئيس لم يأت بجديد ولم يأت مستجيباً لهذه الرغبة، وإنما جاء في الحقيقة ليفرض رؤيةَ المؤسسة العسكرية الحاكمة للمرحلة القادمة، معتبراً إجراء الانتخابات الرئاسية في ظل المنظومة القائمة هو الحل الوحيد لتجنب كل المخاطر والانزلاقات. فقد جاء في كلمته بشأن الانتخابات "...أنها السبيل الوحيد الذي يكفل تجنبَ المقترحات المحفوفة بالمخاطر وإفشالَ المخططات المريبة التي تهدف إلى جر البلاد نحو الفراغ الدستوري وتغييب دور الدولة والزج بها في دوامة الفوضى واللااستقرار"، مؤكداً على أن الانتخابات الرئاسية "تبقى الحل الديمقراطي الوحيد والواقعي والمعقول".
هكذا وبعد مرور نحو خمسة أشهر على انطلاق الحراك الشعبي الذي بدأ منادياً برفض العهدة الخامسة للرئيس المخلوع ثم وصل إلى مطلب تغيير منظومة الحكم كلها، تبين لكل من يرى أن الأمور لا تتغير بمجرد الخروج والنزول للشارع سلمياً ولو بالملايين، كما أن مختلف القوى السياسية المؤثرة في الساحة أدركت مع احتدام الصراع أن السلطة الفعلية والمؤسسة العسكرية وعلى رأسها الفريق أحمد قايد صالح هي التي تمنع التغيير، وهي التي تمسك في حقيقة الأمر بجميع الأوراق.
وإذ تبين الآن لكل ذي عينين أن القوى الشعبية المنتفضة على الأوضاع السيئة في الجزائر ليست من حيث الوعي السياسي في المستوى الذي يمكِّن من تحقيق التغيير الجذري وإحداث القطيعة مع منظومة الحكم الفاسدة والمرتبطة بالأجنبي، أي بالعدو الكافر المستعمر الغربي المتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلد، بدا جلياً انقسام داخل القوى المطالبة بالتغيير بحسب ولاء المحرِّكين واللاعبين للجهات الخارجية، أي بين أصحاب أطروحة الجمهورية الثانية ممن يريدون الاستثمار في الهبة الشعبية بغرض إحداث تغيير جذري في تركيبة النظام عبر الدعوة إلى مرحلة انتقالية تفرض حتماً زحزحةَ الزمرة النافذة من موقعها، وبين مَن يريد إعادة إنتاج النظام والحفاظَ على الدولة الوطنية الحالية بمنظومتها القائمة ولكن بإخراجها في ثوب جديد. إلا أن الجناح المتحكم في السلطة تمكن بكل قوة وفعالية عبر تحريك القضاء وأجهزة الإعلام والضغط والتخويف، مستخدماً ثقل رئاسة الأركان في الساحة السياسية والإعلامية، تمكن من عزل الخصوم وإنهاء شوكتهم عبر فصلهم عن الحراك الشعبي خصوصاً بعد إثارة مسألة رفع الراية الأمازيغية ومنعها في الساحات وما أحدثته في مختلف المدن من نزاع عرقي وصراع أيديولوجي وسياسي على الهوية في الميدان وعلى المنابر الإعلامية ومواقع التواصل على الشبكة.
وفي هذا السياق وفي هذه اللحظة بالذات وبتكليف من السلطة الفعلية المتمثلة في المؤسسة العسكرية أي قيادة أركان الجيش، تحرك الدبلوماسي ووزير الاتصال الأسبق عبد العزيز رحابي، وهو المحسوب على المعتدلين من الطرف المناوئ للزمرة النافذة فيما سبق، لينسق لقاءً لأكبر عدد من الأحزاب والفعاليات السياسية فيما سمي "ندوة الحوار الوطني" التي سمحت لها السلطةُ بالانعقاد يوم 06/07/2019م ودعي إليها أكثر من 700 شخصية ولكن حضرها ما يربو على 900 في ضاحية العاصمة، لم يُشترط في البداية على من يحضرها سوى الموافقة في نهاية الأشغال على مخرجاتها بالأغلبية، ليتم تتويج الندوة بوثيقة تضمنت بنوداً هي عبارة عن حلٍّ توافقيٍّ لا يصطدم مع رؤية الجيش للمخرج من الأزمة وكيفية تجاوز حالة الانسداد، وفي الوقت نفسه لا يقفز على مطالب الحراك.
إلا أنه بعد كلمة رئيس الأركان الأخيرة يوم 10/07/2019م بمناسبة حفل تبادل التهاني وتوزيع جوائز الاستحقاق على كفاءات الجيش الوطني الشعبي التي حملت الكثيرَ من التهديد والوعيد لمن أسماهم هذه المرة بصريح العبارة بالخونة والعملاء الذين تجرؤوا على ثوابت الشعب وتجرؤوا على قيادة الجيش وتورطوا في المساس بالمؤسسة العسكرية، كما تورط غيرُهم من الفاسدين في نهب وتبديد المال العام والسطو على ثروات الشعب بكل الطرق، يمكن القول الآن إن ساعة الحسم قد اقتربت. كما يُـتوقع في قابل الأيام أن تتحرك بقوة مجدداً وبشكل أكثر حزماً وعزماً الجهاتُ الفاعلة للجم ما تبقى من أقطاب الزمرة المناوِئة الذين لا يزالون يشكلون حجرَ عثرة في وجه تنفيذ خارطة طريق الجناح المتحكم في دواليب السلطة عبر المؤسسة العسكرية. إلا أن الهدف المعلن بطبيعة الحال لدى هذا الجناح الذي حكم البلاد لعقود عبر منظومة بوتفليقة الساقطة، مكرِّساً جميع أصناف الفساد طولاً وعرضاً في البلاد، إنما هو إرساء قواعد دولة الحق والقانون والعدالة والديمقراطية الحقيقية (!!) كما جاء في آخر خطاب لرئيس الأركان الذي تضمن أيضاً تخويفاً وتهديدا صريحاً بالعقاب الصارم من خلال جهاز القضاء وسيف العدالة ضد كل الخصوم والمناوئين والفاسدين!! كما أنه بات بلسان الحال والمقال يعلن عن تأجيل "الإصلاحات" و"حلم الانتقال الديمقراطي" إلى ما بعد "انتخاب الرئيس القادم"!!
بقي أن نشير إلى أن الذين ينشدون في الجزائر وفي غيرها من بلاد المسلمين التغييرَ الجذري أو القطيعة مع الأجنبي المستعمر أو حتى الحلول التوافقية، عبر بوابة الدولة المدنية أو الدولة الديمقراطية الحقة، أو عبر التوفيق بين مفاهيم الحضارة الغربية ومفاهيم الحضارة الإسلامية، خصوصاً من المعتدلين الذين يستنجد بهم الحكامُ المفسدون الظلَمَة كلما اتسعت الهوة بينهم وبين محكوميهم.. مَن ينشدون هذه القطيعة الوهمية أو غيرَها من الحلول المميتة في ظل المنظومة الدولية القائمة، في تجاهل تام للإسلام الذي هو عقيدة سياسية تعالج كل المشاكل الإنسانية في كل زمان ومكان مهما كثرت ومهما تعقدت، والذي هو المخرج والمنقذ الحقيقي مما يعانيه المسلمون بل البشرية عبر إقامة دولته، دولة الخلافة، التي لا تعترف بالمنظومة الدولية الحالية القائمةِ على الظلم الاستعماري والفساد في الأرض، وعلى العلمانية السافلة والرأسمالية المقيتة، وعلى معاداة الإسلام وأهله وتكريس تفوق الغرب الرأسمالي الكافر. إن مَن ينشدون معالجة أوضاع وأوجاع وأسقام الأمة الإسلامية من خلال استيراد الحلول "الناجعة" من العدو الغربي نفسه، ولو عن حسن نية، ما هم إلا كحاطبي ليلٍ لا يأمنون أن يجلبوا لأمتهم مع الحطب العطب!
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع