لقد كان لموقع إيران الاستراتيجي وسط منطقة تزاحم استعماري بين أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي؛ أكبر الأثر في صياغة توازن استراتيجي جديد لصالح أمريكا على يد الخميني وثورته الدينية، مقابل انحسار نفوذ بريطانيا المتمثل في نظام رضا بهلوي الذي كانت نصبته بريطانيا شاهاً على إيران منذ احتلالها عام 1941م إبان الحرب العالمية الثانية إلى لحظة خلعه في 1979م. كما جعلت أمريكا من إيران حائط صد أمام المد السوفييتي واشتراكيته بعد انقلاب أمريكا على فكرة التعايش السلمي التي كان العملاقان اتفقا عليها في مؤتمر الوفاق بفينّا عام 1961م؛ فخشيت أمريكا من إطباق السوفييت على أفغانستان التي سيطر حزب الشعب الديمقراطي (الحزب الشيوعي الأفغاني) على السلطة فيها عام 1978م، والذي حظي بدعم سياسي ولوجستي من موسكو انتهى باجتياح السوفيات لأفغانستان أواخر 1979م، حيث بات الدب الروسي على بعد فراسخ قريبة من منطقة الخليج العربي بثروته النفطية الهائلة.
ولم يعد خافياً على الباحث عن الحقيقة أن يبصر ما كان بالأمس مُغطى بعد أن ذاب الثلج وبان المرج، وكثر الهرج والمرج. فقد تواترت النقولات الإعلامية للتقارير والوثائق المتبادلة بين أمريكا والخميني من أول يوم تفجرت فيه ثورة الملالي بإيران. من ذلك ما كشفته (بي بي سي) عن وثائق رُفعت عنها السرية تُظهر أن ثمة وجوهاً أُخرى لم تكن معروفة في السابق للعلاقات بين إيران وأمريكا، تضمنت الوجه المختلف للخميني الذي لطالما انتهج سياسات ظاهرها التشدد حيال أمريكا، والذي لطالما كان يتهجم عليها ويطلق عليها اسم (الشيطان الأكبر)؛ ما أوجد هزّة كبيرة في إيران حدت بالمرشد الإيراني علي خامنئي إلى استنكار التقرير، نافياً وجود أية اتصالات سابقة بين الطرفين، مدعياً أنها تقارير مختلقة ولا أساس لها من الصحة. وفي عام 2005 خرجت الوثيقة من إطار السرية، وتم ذكر بعض الفقرات المتعلقة برسالة آية الله الخميني، إلا أن بعض الأجزاء تم حجبها. وفي عام 2008 نشرت مكتبة الرئيس جيمي كارتر نسخة رقمية من المستند التي لم تحجب فيها الفقرة المتعلقة برسالة الخميني. وتنص الوثيقة على شرح الخميني في رسالته أنه لم يعارض المصالح الأمريكية في إيران، بل على العكس فإنه اعتقد بأن الوجود الأمريكي كان ضرورياً لإحداث توازن ضد الاتحاد السوفييتي والنفوذ البريطاني المحتمل، كما شرح اعتقاده في التعاون الوثيق بين الإسلام وبين أديان العالم خصوصاً النصرانية. ووصلت الرسالة إلى واشنطن يوم 6/11/1963، كما أرسل الخميني مرة أخرى رسالة لإدارة الرئيس جيمي كارتر وفقاً لمستند يعود تاريخه إلى 19/01/1979 أي قبل انطلاق الثورة الإيرانية بأسابيع، والتي وعد فيها الرئيس الأمريكي بعدم قطع إيران للنفط عن الغرب، وعدم تصدير الثورة إلى دول المنطقة، وإقامة علاقات ودية مع أمريكا. ونصت الرسالة الثانية للخميني على تأكيدات لكارتر أنه لن يعادي أمريكا، حيث قال فيها: سترون أنه لا يوجد عداء خاص بيننا وبين أمريكا، وسترون أن الجمهورية الإسلامية المبنية على الفلسفة والقوانين الإسلامية لن تكون إلا حكومة إنسانية تسعى للسلام ومساعدة البشرية... أخبار الخليج العربي: 4/6/2016م بتصرف).
وإذا كانت التقارير والوثائق المتواترة في ألفاظها ومعانيها غير كفيلة بكشف كل الحقيقة لدى الكثيرين ممن وقعوا في شرك التضليل السياسي، فإن أفعال إيران المنظورة والمشهودة اليوم أمام الأعمى والبصير لم تترك لمتقوِّل أن ينكر بزوغ الشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب. فمع تفجر ثورة الشام في وجه النظام السوري الجناح الثاني للممانعة المزعومة هرعت إيران إلى سلاحها ومليشياتها وفيالقها لقتال من ثاروا وصدحوا بثورة عظيمة ثارت منها رائحة العزة والخلافة، ولمساندة نظام بائع للجولان وحامٍ لحمى يهود لأكثر من أربعين سنة، وحالت دون سقوطه بعد أن كاد يهوي تحت نعال أهل الشام. لقد أضحت إيران ضلعاً في مثلث الإجرام (روسيا وإيران وتركيا) والتنسيق معه على قدم وساق، لوأد ثورة الشام، وبعث الحياة في نظام البعث المجرم، وإبقاء الشام خاضعة لهيمنة أمريكا. فليت شعري... هل بات شعار (الموت لإسرائيل) نسياً منسياً، أم هل اعتنق الشيطان الأكبر أمريكا الإسلام فجبَّ الإسلام إجرام أمريكا بحق المسلمين، أم هل بَدَّل أهل الشام دينهم حتى حقَّ عليهم حد الردة بقتل فلذات الأكباد وتشريد الملايين؟!
أما فيما يتعلق بالدندنة المستمرة حول امتلاك إيران للسلاح النووي واليورانيوم، فإنها لا تخرج عن سياق استثمار أمريكا لهذا الملف بشكل أو بآخر على تباين في النهج ما بين إدارة وإدارة. والذي يحدد النهج الأنجع لأمريكا في استثمار هذا الملف، بالتقارب مع إيران ورفع الحصار عنها تارة، أو بعزلها والعمل على فرض عقوبات عليها تارة أخرى، هو طبيعة المعطيات والظروف والوقائع ذات العلاقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، انتهجت إدارة أوباما نهج التقارب المعلن مع إيران، بتوقيع الاتفاق النووي بينها وبين الدول الست الكبرى في 14/07/2015م. قال أوباما إثر دخول الاتفاق النووي مع إيران حيز التنفيذ: إن المقاطعة الدبلوماسية لإيران لم تخدم مصالح الولايات المتحدة، وأضاف بأن عدم الحديث مع إيران لعقود لم يساهم في تقدم المصالح الأمريكية، مشيرا إلى أن الاتفاق النووي مع إيران أثبت قوة الدبلوماسية الأمريكية دون الدخول في حرب بالمنطقة. وأفاد أنه وبموجب الاتفاق النووي الموقع في 14/07/2015 مع القوى الست الكبرى فإن إيران لن تحصل على السلاح النووي، مؤكدا أن الاتفاق النووي مع إيران جعل العالم أكثر أمنا... دنيا الوطن: 7/1/2016م) وبالمقابل رحبت إيران حينئذ بالاتفاق على لسان الرئيس حسن روحاني الذي كان دعا الشركات الأمريكية والغربية للاستثمار في بلاده. والذي دعا أمريكا حينئذ لتوقيع الاتفاق هو خشيتها من سقوط نظام بشار في سوريا؛ ما دعا إلى تكاتف القوى اللاعبة في سوريا للحيلولة دون سقوطه، وذلك بلعب إيران دوراً أكثر فاعلية، ولا يكون ذلك وإيران مكبلة بقيود العزلة والعقوبات المضروبة عليها؛ فكان لا بد من إطلاق يدها وتحريرها من هذه القيود لتتحرك بأريحية وسلاسة. وهذا ما حدث فعلاً، فقد تزامن هذا الاتفاق مع دفع أمريكا لروسيا للتدخل العسكري في سوريا، وما واكب ذلك من سلسلة من تقارب ثلاثي الشر (روسيا وتركيا وإيران) بعضهم مع بعض، وتنسيقهم المعلن والخفي فيما بينهم في الأعمال السياسية والعسكرية في سوريا، والتي كان تسليم مدينة حلب أيقونة ثورة الشام، وما تلاها من قضم النظام للمناطق المنطقة تلو الأخرى من أفظع نتائجها! فوقف نظام الإجرام على رجليه، وتنفس الصعداء بعد أن انحبس عنه الهواء أو كاد.
وأما اليوم في ظل إدارة ترامب فإن الظروف السياسية قد اختلفت، والوقائع في سوريا قد تغيرت لصالح نظام بشار المجرم، وبدا لأمريكا أن الاتفاق السابق قد أنعش الاقتصاد الأوروبي بازدياد صادرات دول أوروبا إلى إيران؛ ما جعل ترامب بنهمه الاقتصادي يجنح للعودة إلى فرض قيود وعقوبات على إيران مجدداً والعمل على عزلها.
وما بين تلويح ترامب بالعقوبات وفرض العزلة على إيران، وبين مد أوباما الجزرة بالتقارب معها ورفع العقوبات عنها، تبقى إيران ركيزة رئيسة من ركائز أمريكا في المنطقة، إلى أن يمُنَّ الله على هذه الأمة بإقامة الخلافة الراشدة التي ستقطع يد أمريكا عن بلاد المسلمين، وتعيدها إلى دارها، هذا إن بقي لها دار، وتُجري أحكام الله بالقصاص العادل من كل الخونة والمارقين. ﴿وَسَيَعلَمُ الذينَ ظَلَموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبون﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الله (أبو حنيفة)
رأيك في الموضوع