اختتم وفد أمريكي، في يوم الأربعاء 20/02/2019م على رأسه سيريل سارتر المساعد الخاص للرئيس الأمريكي، ويرافقه مدير دائرة أفريقيا بالأمن القومي، اختتم زيارة إلى الخرطوم، التقيا خلالها بوزير الخارجية الدرديري ومساعد الرئيس فيصل حسن إبراهيم، وبحث الجانبان مسيرة الحوار بين البلدين، لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والجدير بالذكر أن السودان في هذه القائمة منذ العام 1993م، بسبب اتهام أمريكا للسودان بإيواء الإرهابيين. هذه الزيارة، وما سبقها من زيارات، هي محطات مرت بها المحادثات بين البلدين، فلماذا تأتي هذه الزيارة في هذا التوقيت؟ ولكن قبل الإجابة لا بد من تثبيت بعض الحقائق كما يلي:
الحقيقة الأولى، إن الغرب الكافر وعلى رأسه أمريكا، لديه مشروع يقضي بإقصاء الإسلام بالكلية عن حياة هذه الأمة، تحت لافتات (الإرهاب)، وقد صرح بذلك الرئيس الأمريكي ترامب حيث قال: (سنعزز تحالفاتنا القديمة، وسنشكل أخرى جديدة، وسنوحد العالم المتحضر كله ضد (الإرهاب الإسلامي المتطرف)، الذي سوف نزيله من على وجه الأرض).
أما الحقيقة الثانية، فإن ساسة الغرب عندما يذكرون مصطلح (الإرهاب)، فهم بذلك يقصدون الإسلام، بوصفه نظام حياة ونمط عيش مغايراً للحضارة الغربية، ولا يوجد لديهم أدنى فرق بين الإسلام و(الإرهاب)، فهما عملة واحدة.
أما الحقيقة الثالثة، فهي أن الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية، هي أنظمة وظيفية مرتبطة بالغرب بلا استثناء، ومنها نظام الإنقاذ في السودان الموالي لأمريكا، فهو أداة بيدها، وعبره تمرر أمريكا مؤامراتها على السودان، وأوضح شاهد على ذلك هو تصريح وزير خارجيةالسودان السابق غندور حيث قال: (إن فصل الجنوب كان في الأساس مؤامرة قبلنا بها).
واستئناساً بهذه الحقائق، واستناداً للنظر من زاوية الإسلام، نقول لقد بدأت المحادثات بين أمريكا والسودان منذ مدة ليست بالقصيرة، وظلت فكرة التطبيع مع واشنطن، حلما يراود قادة الإنقاذ، حيث عبر البشير قائلاً: (رفع العقوبات الأمريكية عن السودان كان وعداً قديماً، حيث بدأت المحادثات بشأنه قبل العام 2000)، وقد مرت هذه الحوارات بمحطات كثيرة منذ ذلك الحين، أبرزها في مطلع العام 2016م، حيث تم الاتفاق مع حكومة أوباما على مطلوبات خمسة محددة، يجب على حكومة السودان الإيفاء بها حتى تخطب ود أمريكا، وترفع عنها عقوبات اقتصادية مفروضة عليها منذ العام 1997م، وهذه المسارات هي "التعاون في مكافحة (الإرهاب)، وإحلال السلام في السودان وفي جنوب السودان، وتقديم تسهيلات في وصول المساعدات الإنسانية لمناطق النزاع، وموضوع محاربة جيش الرب الأوغندي"، تفانت الحكومة في تنفيذ هذه الملفات، حتى توج هذا السعي أخيراً في تشرين الأول/أكتوبر 2017م، برفع العقوبات الاقتصادية، مع بقاء السودان في قائمة الدول الراعية (للإرهاب). وفي 16 تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، أي بعد 40 يوماً فقط من رفع العقوبات الاقتصادية زار جون سوليفيان نائب وزير الخارجية الأمريكي البلاد، فاتحاً ملف الحوار بشأن قائمة الدول راعية (الإرهاب)، حيث أضيف موضوع الحريات الدينية ضمن القائمة المطلوبة، ولعل حديث البشير عن قانون النظام العام، ووصفه بأنه يخالف الشريعة الإسلامية بــ180 درجة هو من هذا الباب، والمقلق بشأن هذه المرحلة، ما كشفه مصدر مقرب من الخارجية الأمريكية قائلاً: (إن واشنطن هذه المرة تريد من الخرطوم أن تلتزم بالقانون الدولي والمبادئ الدولية في هذا الصدد، وأن تعدل قوانينها القمعية والقهرية)، بمعنى على الخرطوم أن لا تكتفي بتعطيل القوانين، بل تعديلها. فجاءت تحركات الحكومة تؤكد على جديتها في تعديل القوانين، والذي قادنا إلى ذلك هو:
أ/ في 23/5/2017 أبلغت وزيرة الدولة بوزارة العدل السودانية، مسئول الحريات الدينية والأديان بالخارجية الأمريكية، اتجاه الحكومة لتعديل مواد بالقانون الجنائي، لتتسق مع المواثيق الدولية.
ب/ مصادقة وزارة العدل في نيسان/أبريل الماضي على اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، واتفاقية مناهضة التعذيب.
ج/ الورشة التي عقدت في الخرطوم في 31/01/2019م، أكد فيها رئيس لجنة الحريات الدينية بالبرلمان (...إن مادة الزي الفاضح تحتاج لتعديل أنها تظهر السودان كمنتهك للحقوق، وأن التوصيات سترفع للجنة الدستورية لتعديل القانون).
إن أمريكا لديها مشروع ذو شقين، أحدهما علمنة البلاد صراحة عبر دستور علماني ليس له صبغة إسلامية مطلقا! قال نائب رئيس كتلة التغيير بالبرلمان (إن الدستور الدائم الذي تحدثت عنه مخرجات الحوار الوطني، سيأتي خالياً من الخلفيات الدينية، سواء أكانت إسلامية أو غيرها)، وأما الشق الثاني، فهو تقطيع ما تبقى من السودان على أسس عرقية وإثنية أو كما سماها بيرنارد لويس حدود الدم، قال البشير من موسكو، حين زارها: (لدينا معلومات بسعي أمريكا لتقسيم السودان إلى خمس دول).
إن زيارة سارتر للسودان، هي لضمان السير في المشروع الأمريكي الذي يطلب رأس الإسلام، ويلاحق أحكامه المعطلة أصلاً، لمحوها من الدستور القادم، حسداً من عند أنفسهم، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾. أما توقيت الزيارة، فإن الاحتجاجات والتظاهرات، التي تطالب بإسقاط النظام، هي تهديد لمصالح أمريكا ومشاريعها، لذلك سكتت أمريكا عن إعلان البشير حالة الطوارئ، حيث كان في 22/02/2019م، أي بعد أقل من 48 ساعة فقط من إقلاع طائرة سارتر العائدة إلى واشنطن، والذي أكد ذلك تصريح سارتر نفسه حيث قال: (مع مزيد من الصبر ستتمكن الحكومة من إيجاد حل سياسي...).
إن أمريكا بهذه الخطوة، تكون قد ألقت الكرة في ملعب الحكومة، وأعطتها الضوء الأخضر والأبيض، لتطلق كلتا يديها لاحتواء هذه التظاهرات، والسيطرة على الأوضاع، بتشديد القبضة الأمنية على البلاد، عبر حكومة عسكرية، بمعاونة سيسي مصر، (أكدت المصادر استمرار الدعم المقدَّم من السيسي للبشير اقتصادياً وإعلامياً وأمنياً، بإشراف اللجنة الاستخباراتية الأمنية المشتركة بين البلدين... وهي قدّمت للخرطوم استشارات أمنية تتعلق بخطط مواجهة المتظاهرين في الميادين المفتوحة والشوارع وأماكن مختلفة)، (العربي الجديد 07/03/2019م).
يظهر من ذلك أن الحوارات، واللقاءات، والزيارات، والعقوبات، هي محطات، وكروت، تحتاجها أمريكا، بما يعرف بسياسة الجزرة والعصا، فكلما احترق كرت، رفعت أمريكا عشرات الكروت، وإن هذه القوائم والعقوبات ما هي إلا غطاء للجرائم، وتضليل للرأي العام، حتى يتسنى للحكومة خداع البسطاء، بمثل خطاب البشير في 13/11/ 2018م حيث قال: (نقول لمن يستقوي بأمريكا والغرب، إن المتغطي بأمريكا عريان)!
إن عداوة الغرب الكافر للإسلام والمسلمين، لن تتغير، مهما فرشت من ورود للوفود الزائرة، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾. وإنه لمن المؤسف حقاً أن تكون هذه هي حال خير أمة أخرجت للناس، يحكمها رويبضات، يتوددون لنيل رضا الغرب الكافر، ومن هنا كان لزاماً علينا العمل لتغيير هذه الأوضاع، التزاماً بأمر الله، وطلباً لحياة كريمة، تليق بنا نحن الأمة الإسلامية.
واليوم، وبفضل الله قد دبت الحيوية في جسد الأمة، فانتفضت، وهي تسعى للتغيير الحقيقي، فكان لزاماً علينا تبصيرها بنور الله، لتستعيد مكانتها الرائدة، بدولتها دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، وعد ربنا سبحانه وبشرى رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
بقلم: الأستاذ أحمد رشاد – الخرطوم
رأيك في الموضوع