في 18 آذار 1948م أي قبل إعلان كيان يهود في حرب "النكبة" بشهرين تقريباً، استقبل الرئيس الأمريكي ترومان الزعيم اليهودي حاييم وايزمان سراً وتعهد له بالاعتراف بكيانهم في 15 أيار من العام نفسه، ولما أحالت بريطانيا ملف القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة عام 1947م حتى لا تأخذ على عاتقها وحدها إنشاء كيان يهود، رفضت لجنة فلسطين الدولة المتحدة في 25 تشرين الثاني 1948م وأيدت مشروع التقسيم، وصدر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية في 29 تشرين الثاني 1948م (رقم 181)، مع تدويل القدس حيث تضمن نصه أنه: "تؤسس في فلسطين دولتان مستقلتان: واحدة عربية وأخرى يهودية، تؤسس في القدس إدارة دولية خاصة..."، وأعطى مشروع التقسيم ما نسبته 56.5% من فلسطين لليهود، وتضمن تشكيل الاتحاد الاقتصادي الفلسطيني للدولتين العربية واليهودية (نص قرار التقسيم رقم 181). وكانت أمريكا ممن دفع نحو صدور ذلك القرار، ووافقت ثلاث من الدول العظمى في ذلك الوقت (روسيا وأمريكا وفرنسا) على القرار، فيما امتنعت بريطانيا عن التصويت، وشكّل القرار نواة حل الدولتين مع مشروع تدويل القدس، وصارا معلمين من معالم الحل الأمريكي للقضية الفلسطينية، في مقابل الحل القديم، الدولة العلمانية.
ومن المعلوم أن بريطانيا كانت قد أسست علاقات قوية مع قادة يهود، وكان لها نفوذ بين ساسة يهود الأوائل، ومنهم الذين أسسوا وقادوا حزب العمل الذي حكم كيان يهود لمدة 30 عاماً منذ تأسيسه، من أمثال "بن غوريون" وكانوا من معارضي التقسيم: وكان بن غوريون قد أعلن منذ عام 1938م أمام قيادة الوكالة اليهودية معارضته لفكرة التقسيم وظل معارضا لها، ولدى صدور القرار رقم 181 صرّح بيغن ببطلان شرعية التقسيم.
وعشية حرب عام 1948م أعلن قادة العصابات اليهودية إقامة كيانهم، دون تحديد حدوده في الإعلان واكتفوا بتعريفه "دولة يهودية في أرض (إسرائيل)"، وسارع الرئيس الأمريكي هنري ترومان للاعتراف بكيان يهود بعد دقائق من إعلانه يوم 14 أيار 1948م ولدى تقدّم كيان يهود للعضوية في الأمم المتحدة، حصل جدل سياسي في أروقتها يعكس تباين الرؤى الدولية:
تقدمت الحكومة المؤقتة لكيان يهود في نهاية عام 1948م بطلب انضمامها للأمم المتحدة، وفي الجلسة التي عقدها مجلس الأمن لمناقشة الطلب احتدم الجدل "القانوني" بين المندوب السوري من جهة ومندوب أمريكا من جهة أخرى حول مدى انطباق شروط العضوية على كيان يهود، حيث انبرى المندوب الأمريكي للدفاع عن جدارة الكيان بالعضوية، ومن المعروف أن أمريكا وروسيا كانتا متحمستين في جلسة 2 كانون الأول 1948م للتوصية بالقبول، فيما كان رأي بقية الدول الأعضاء في المجلس أن ذلك القبول سابق لأوانه، ولما أحال المجلس الطلب إلى "لجنة قبول الأعضاء الجدد فيه" لم تبت بقرار، وقرر مجلس الأمن تحويله للتصويت ففشل مشروع القرار الذي أيدته أمريكا وروسيا، فيما امتنعت عن التصويت عليه (فرنسا وبريطانيا والصين)، فأعاد كيان يهود التقدم بطلب ثان في شباط 1949م، وعند إجراء الاقتراع في مجلس الأمن في 4 آذار 1949م امتنعت بريطانيا عن التصويت مرة أخرى، وأصدر مجلس الأمن توصية بالقبول، وعارضت مصر (قبل الانقلاب الأمريكي)، ولما أحيلت توصية مجلس الأمن هذه إلى الجمعية العامة للنظر فيها تجدد الجدل القانوني والسياسي، وفي النهاية صدر قرار الجمعية العامة رقم 273 (3) بتاريخ 11 أيار 1949م الذي قرر شرعية كيان يهود.
ومع منتصف القرن الماضي قررت أمريكا أن تلقي بثقلها على الساحة الدولية وأن تتفرد بمعالجة القضايا الساخنة، ويعتبر الاجتماع الذي عقده وكيل وزارة الخارجية الأمريكية جورج ماغي بالسفراء والممثلين الأمريكيين في المنطقة، في مؤتمر إسطنبول عام 1950م، (ولقد سبق بيانه في الجزء الرابع)، نقطة فاصلة في تحرك أمريكا نحو الدخول بثقل في ملف القضية الفلسطينية، وقد تبلورت عن الاجتماع توصية (استراتيجية) تم رفعها للبيت الأبيض تقضي بضرورة فصل السياسة الأمريكية عن السياسة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط، وتمخض عن ذلك الاجتماع تشجيع هيئة الأمم المتحدة على تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، مما يمثّل الرؤية الأمريكية الثابتة لحل القضية الفلسطينية.
وكان خطاب أيزنهاور قد ركّز على عدم الاستقرار والقلاقل التي اجتاحت المنطقة بسبب وجود كيان يهود وبالطبع تشجعت أمريكا على تفعيل سياستها، فكان "مبدأ أيزنهاور" إعلانا لسياسة استعمارية عدوانية، وبدأت خطوات أمريكا العملية لمحاولة تنفيذ الحل تتزايد وتحقق إقامة كيان فلسطيني يفصل بين كيان يهود والأردن لرفع يد يهود عن الأردن وفصلهم عنها، وهذا ما كانت ترفضه السياسة الإنجليزية وأدوات الدولة العميقة عند يهود، حيث تأصّل لدى أمريكا أن الأردن قاعدة سياسية لبريطانيا في المنطقة مع العلاقة العضوية مع كيان يهود، حيث أخذت بالفصل بينهم من خلال الدولة العازلة.
وهكذا تبلورت سياسياً أطروحتان دوليّتان حول القضية الفلسطينية تمثلتا بحل الدولة الواحدة كرؤية بريطانيا، وحل الدولتين (مع تدويل القدس) كرؤية أمريكية، وظل هناك صراع سياسي حول الرؤيتين، انعكس في تحركات الأنظمة العربية وحكامها الذين توزّعوا في ولاءاتهم بين القوتين الاستعماريتين واختلفوا في أعمالهم وبرامجهم السياسية بناء على ذلك، ومع ذلك ظلّت الدولتان تتنافسان على تثبيت كيان يهود، ورعايته كخط ثابت وقطعي بالرغم من تباين مصالحهما بشأنه وتباين طرقهما في تسخيره وتشكيله وكيفية الحل.
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله (أبو دجانة)
رأيك في الموضوع