يُعتبر "الاتحاد العام التونسي للشغل" من أقوى وأعرق المنظمات العمالية في البلاد العربية، وبالرغم من أنه يحمل الصفة النقابية التي تجعل مهمته الأساسية الدفاع عن حقوق المنتسبين إليه من زيادة في الأجور وتحسين ظروف العمل وجراية التقاعد إلا أن هذه المنظمة النقابية عُرفت بتدخلها في الشأن السياسي العام منذ نشأتها زمن الاحتلال العسكري المباشر لتونس ودورها الرائد في مقاومته، لذلك فقد اعتبرها الكثير من المتابعين مجازا "أكبر منظمة سياسية" في تونس قياسا إلى العدد الكبير للمنخرطين فيها وقدرتها على التأثير في الحياة السياسية والاقتصادية اليومية.
هذا الدور السياسي الخفي هو الذي جعل القوى السياسية في البلاد بما فيها السلطة تسعى إلى احتوائه للاستقواء به في المعارك السياسية. هكذا كان للاتحاد العام التونسي للشغل دور كبير في إسقاط حكومات عدّة زمن الهالك بورقيبة، وكان له دور في ما سُمّي "الانتقال الديمقراطي" بعد الثورة التونسية وقد أُسندت له نتيجة لهذا الدور "جائزة نوبل للسلام" ولا يزال دوره السياسي متواصلا إلى هذه الأيام.
والإضراب العام الذي قاده الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الخميس 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2018 هو حلقة أخرى من تداخل دوره النقابي مع تأثيره السياسي وتقلب مواقفه حسب الأوضاع السياسية. فبعد أن أصبح من الأطراف الموقعة على "وثيقة قرطاج" التي شكلت بموجبها "حكومة الوحدة الوطنية" بقيادة يوسف الشاهد في شهر آب/أغسطس 2016، وبعد تصريح أمينه العام نور الدين الطبوبي بوجوب إعطاء هذه الحكومة فرصة، انقلبت مواقف قياداته في الفترة الأخيرة وأصبح ينادي بوجوب تغييرها وضخ دماء جديدة فيها، كما أصبح ينتقد أداء الحكومة بكونها تُدار من الخارج في إشارة إلى صندوق النقد الدولي، وكأنه يكتشف ذلك لأول مرة رغم أن العلاقة الأخيرة بهذا الصندوق بدأت في 2013، وأن الشروط الأخيرة من تقليص الإنفاق العمومي وتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية وتجميد الأجور بدأ اعتمادها في 2016، وأن وفدا من الاتحاد سبق له أن التقى بعثة صندوق النقد الدولي في مناسبتين؛ الأولى في نيسان/أبريل 2017 والثانية في أيار/مايو 2018 للتباحث فيها.
لقد أصبحت الحياة اليومية في تونس ضربا من المعاناة، وأصبحت الخدمات الصحية والتعليمية في أدنى مستوياتها منذ تخفيض قيمة الدينار ومنذ أن تم تحديد الإنفاق العمومي، وأصبح الصغير والكبير في تونس يدرك أن هذا الوضع هو نتيجة لخضوع الحكومة لسياسة التداين الخارجي المشروط من صندوق النقد الدولي، لكن دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل الأخيرة إلى الإضراب العام والمطالبة بالرفع في الأجور والتنديد بسياسة صندوق النقد الدولي ليس ناتجا عن استفاقة ولو متأخرة بخطر هذه السياسة، بل هو جزء من اصطفاف سياسي لهذه المنظمة النقابية مع السبسي وحزبه نداء تونس وبعض أحزاب اليسار ضد حكومة الشاهد التي أصبحت محسوبة على حركة النهضة منذ دعم هذه الأخيرة لها.
ويُتوقع أن تستمر هذه الاحتجاجات والإضرابات الجماهيرية في الفترة القادمة بعد أن فقد كل من حزب نداء تونس واتحاد الشغل تأثيرهم في الحكومة الجديدة، وقد تكون هذه الاحتجاجات فرصة للحكومة للاستفادة منها والدخول في مفاوضات تنتهي بإرضاء اتحاد الشغل ببعض المكاسب المادية بزيادة في الرواتب مقابل الحصول على هدنة مجتمعية تستغلها الحكومة لتمرير اتفاق الشراكة الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي، وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمده بن علي قبل تمرير اتفاق الشراكة في المجال الصناعي سنة 1995 والذي تم في صمت تام من قيادة الاتحاد آنذاك.
لقد تبين أن صوت الاتحاد العام التونسي للشغل يعلو كثيرا حين يتعلق الأمر بانتقاد سياسة صندوق النقد الدولي وبيان طبيعتها الاستعمارية بينما لا نلاحظ تلك الحساسية من السياسة الاستعمارية حين يتعلق الأمر بدول الاتحاد الأوروبي، وقد سبق للأمين العام لاتحاد الشغل أن استقبل في نيسان/أبريل 2017 في مقره سفراء دول الاتحاد الأوروبي في إطار الترويج لاتفاق الشراكة المعمق مع دوله، مع أن السياسة الأوروبية تجاه تونس لا تقل انتهاكا للسيادة واستعمارا واستغلالا عن سياسة صندوق النقد والبنك الدوليين.
لم يكن العمل النقابي في أي بلد وسيلة للتغيير الجذري، وإذا حصل أن مكّن أصحابه من الحصول على بعض المكاسب المادية فهو لا يمكنهم من إحداث التغيير في الأنظمة التي تتحكم في العلاقات العامة. وغالبا ما يتمكن السياسيون من احتواء النقابات وتوجيهها حسب أهوائهم عبر الترغيب والترهيب، لذلك كانت مواقف القيادات النقابية متغيرة ومتقلبة بحسب المصالح الآنية وفاقدة لأي مبدأ يوجهها. ورغم صعوبة الوضع الاقتصادي في تونس وبقية البلاد الإسلامية فإن القضية المصيرية ليست في الرقي المادي رغم أهميته، بل هي في التحرر الفكري والسياسي من الاستعمار الخارجي مهما كان مصدره، وهذا لا يكون إلا بالعمل السياسي على أساس الإسلام لا بالعمل النقابي مهما كان مردوده المادي.
بقلم: الدكتور محمد مقيديش
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع