لقد كانت نقلة نوعية، أبداها شعب العراق منذ الاحتلال الأمريكي البغيض يوم عزف عن المشاركة في انتخابات أيار/مايو 2018 في عموم محافظات البلاد، فتدنت نسبة المشاركة إلى 19% رغم التزييف الإعلامي، رافقها اعتراف رسمي بوقوع تزوير كبير، يجعل من اعتماد نتائجها أمرا مرفوضا لولا رضا من جانب المحتل الكافر ليُخرج منها حكومة فاشلة كسابقاتها، إدامة لمشروعه التدميري، وتلميعاً لوجوه كالحة السواد لم يعد بالإمكان قبولها لعظم فسادها، وسوء إدارتها لمؤسسات الدولة. ولعل امتناع الناس عن التعاطي مع الانتخابات الأخيرة جاء في ظل صحوة أتت بعد طول معاناة ويأس من بارقة أمل في تحسن الأوضاع المعيشية على مدى 15 عاما، وقد تؤتي هذه الصحوة أكلها لو وجد لها قائد موفق يعرف طريق الخلاص.
ثم وجهت صفعة أخرى للمشروع الأمريكي، تمثلت في تظاهرات البصرة، لرفع الحيف عن سكانها في المجالات الخدمية والبلدية، ثم ما لبثت أن اشتد أوارها وامتد لهيبها ليشمل معظم المحافظات الجنوبية وصولا إلى بغداد، إيذانا بوعي شعبي على مؤامرات الأعداء، وعزم على محاسبة الفاسدين الذين أضروا بشعبهم. وتلك الصفعة تكتسب اليوم خصوصية على ما سبقها، إذ إنها صدرت من أكبر معين جماهيري للحكومة الطائفية، من وسط شيعي بامتياز، ما أرعب الحكومة وكاد يفقدها التوازن، وحمل الساسة على سلوك مذاهب شتى: فمنهم من ركب الموجة متنصلا من ظلمه، ومنهم من كال التهم لغيره كيلا، وانبرت (المرجعية) هي الأخرى تذكر بما سلف من مواعظها السديدة، وتوجيهاتها الحكيمة في اختيار الأصلح... وما زاد من هول الصدمة الرسائل التي بعث بها المتظاهرون عبر تحريق مقار الأحزاب الحاكمة، والمليشيات الإيرانية ولاء وتمويلا وتدريبا، وإضرام النار في صور الخميني وخامنئي وإحراق القنصلية الإيرانية في البصرة، ومبنى المحافظة ومجلسها، والصدع بهتافات تندد بالتدخل الإيراني في شؤون العراق، فكان ما حصل هو بحق خطبا جللا يدعو الحكومة للتأمل في سبل آمنة للخروج من ذلك المأزق الخطير.
فما كان من حكومة العبادي إلا أن "أطلقت الوعود (السخية) بتشكيل لجان رقابية، وإيفاد وزراء معنيين بأزمات البصرة خاصة والمحافظات الأخرى عامة، لنزع فتيل الأزمة المستحكمة، رافقها إطلاق المالية لتخصيصات بلغت 210 مليار دينار لتمويل المشاريع وتلبية حاجات الناس". (السومرية نيوز). هذا غير وعود بتوظيف 10 آلاف عاطل عن العمل، والحق أن تلك الإجراءات أريد بها الحد من الغضب المتصاعد! فأحدثت تلك الوعود، هدوءاً نسبيا أسهم في كسر حدة الغليان الجماهيري لبعض الوقت، ثم ما لبث أن اكتشف الجمهور زيفها، وأنها حبر على ورق، فاستأنفوا حراكهم بقوة مهددين برفع سقف مطالبهم لتشمل إسقاط النظام بإلغاء العمل بالدستور وتعطيل البرلمان... الخ.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أن الأمل في حل جذري لأزمات العراق لا في البصرة فحسب، بل في أرجاء البلاد كافة يعد أمرا صعب المنال، وذلك لسببين:
أولهما: تكرار الوجوه نفسها التي ستشغل المناصب التنفيذية للحكومة، ومن كان فاسدا طوال 15 عاما لا يتوقع صلاحه في ليلة مهما كانت الظروف..! ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يبدو أن طوفان الفساد سيتوقف.
وثانيهما: أن محاربة تنظيم الدولة وطرده وما جره ذلك من دمار شامل، حمل خزينة العراق حجما مخيفا من الديون، تجاوز - بحسب خبراء اقتصاد عراقيين - حاجز 100-119 مليار دولار نتيجة انهيار أسعار النفط، وتكاليف الحرب، إلى جانب ديون موروثة من حقبة النظام السابق. (الحدث/ الأسواق العربية، وباس نيوز). نقول: إن تلك الديون ستضيف أعباء أخرى على اقتصاد البلاد في ظل ساسة يفتقرون للخبرة والنزاهة للتعامل مع أزمات معقدة كهذه.
فليس أمام الحكومة إذن غير المماطلة والتسويف والوعود بقدوم وقتٍ ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾. أو اللجوء للقمع والتضييق على المتظاهرين المطالبين بحقوق مشروعة لحملهم على النكوص عن المضي قدما في حراكهم. ولعل الخيار الثاني هو الراجح، لأن إيران الممسكة بخيوط اللعبة غير مستعدة لترك العراق باعتباره (الكنز) الذي لا تنفد منافعه لا سيما في ظل العقوبات الأمريكية التي تزيد من توحش إيران لإثارة المشاكل لدول المنطقة بعلم ورعاية أمريكا التي تلعب على كل الحبال في ظل حكام رويبضات ليس بينهم رجل واحد يضع حدا لعنجهية عدو الإسلام أمريكا. يؤيد ما ذهبنا إليه حملة اعتقالات، واختفاء قسري، واختطاف، واغتيال طالت عددا من النشطاء الذين أيدوا المسيرات المناهضة للحكومة. (سكاي نيوز عربية). وتلك الإجراءات التعسفية تهدف إلى منع تجدد المظاهرات في الأيام المقبلة. وقد أفاد أحد أبرز ناشطي البصرة لوكالة "يقين للأنباء" مشترطا إخفاء هويته لأسباب أمنية، أن ليلة 14 أيلول/سبتمبر الجاري داهمت قوة عسكرية مجهولة منازل نحو 30 ناشطا من شباب البصرة واقتادتهم إلى جهة مجهولة، ومضيفا أن القوة ذاتها داهمت منزل الناشط البصري البارز "وليد الأنصاري"، واقتادته إلى جهة مجهولة دون معرفة مصيره حتى اللحظة. وأضاف الناشط أن مجموع المعتقلين حتى اللحظة بلغ نحو 64 ناشطا، وسط قلق ذويهم على حياتهم. في حين أوضح ناشط آخر هو "أحمد الفتلاوي" أن عدد المعتقلين من ناشطي البصرة بلغ نحو 110 معتقلين، من قبل قوة خاصة قادمة من خارج البصرة، وغيرها كثير.. ما قلب الموقف رأسا على عقب، فبعد أن كانت المظاهرات تهدف للضغط على الحكومة لتوفير فرص العمل وتحسين واقع الخدمات والبنى التحتية، أصبح عشرات البصريين من أهالي المعتقلين الأسبوع الماضي يطالبون بإطلاق سراح أبنائهم. وأشار "الفتلاوي" إلى أن جميع حالات الاعتقال تمت ليلا ومن دون أوامر قضائية، وأن العديد من المتظاهرين اضطروا للسفر خارج البصرة خشية الاعتقال أو التصفية. أما مفوضية حقوق الإنسان فقد أشارت إلى أن عدد الشكاوى المقدمة لها، والمتعلقة باعتقال أو اختفاء ناشطين بصريين تربو على 146 شكوى، فضلا عن شكاوى تفيد بتلقي عدد من الناشطين برقيات تهدد بالتصفية. (وكالة يقين للأنباء). وختاما، نضرع إلى الله تعالى أن يعجل بنصره وقيام دولة الخلافة الراشدة التي تنصف كل مظلوم، وترفع لواء العدل، وتحمي البلاد والعباد من مكر الكافرين الأعداء. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق – العراق
رأيك في الموضوع