تتسارع مجرياتُ الأحداث في هذه الآونة في الجزائر لتشير إلى أن البلد مقبلٌ مجدداً على لعبة سياسيةٍ جديدة، تُحقق لأوروبا مرادَها. فقد شهدت البلادُ هذه الأيام حراكاً سياسياً تجلى بصورة خاصةٍ فيما أقدمت عليه زمرةُ بوتفليقة الفاسدة عبر رئاسة أركان الجيش التي هي الضامن لبقاء النظام منذ نشأة الدولة في 1962م من تغييراتٍ شملت إقالات وتعييناتٍ في أوساط الجيش وفي الأوساط المدنية أيضاً. وقد طالت هذه التغييرات والإقالاتُ والتعيينات على وجه التحديد خمسةً من قادة النواحي العسكرية الستة (من الجنرالات) إضافةً إلى قائد القوات البرية وقائد القوات الجوية وقياداتٍ في الدرك الوطني والكثير من المسئولين في مراكز حساسة من وزارة الدفاع الوطني وفي القطاعات الأمنية والشرطة والقضاء والإدارة والولاة وحتى البنوك والجمارك والموانئ وغيرها...
والغريب واللافت في هذا الشأن هو أن كل تلك التغييرات تُستصدر لهؤلاء المسئولين من أعلى الهرم أي من الرئاسة وباسم رئيس الجمهورية، الذي هو وزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة، في غيابه شبه التام عن المشهد منذ 2013م!! بل ويحدثُ ذلك في ظل صمت مطبق مما يسمى أحزاب المعارضة السياسية! والمستغرب أيضاً هو أن أغلب مَن تم إبعادهم من الجنرالات جرى منعهم من السفر وتمت مصادرةُ جوازاتهم وأخذت وثائقُ من بيوتهم بعد مداهمتها وتفتيشها ليلاً!!
إن ما فرض أغلبَ هذه الإجراءات هو في الحقيقة حالة التململ التي تشهدها المؤسسةُ العسكرية في الجزائر على خلفية رفضِ الكثير من الأوساط (داخل المؤسسة وخارجها) استمرار بوتفليقة وزمرته في حكم البلاد، وما نجم عن غيابه شبه التام عن الرئاسة من صراعاتٍ بين العُصب النافذة، وحالةُ الشغور غير المعلن في موقع الرئاسة منذ سنوات وما آلت إليه الأوضاع في كافة مناحي الحياة من استشراء الفساد وتفكك العلاقات في المجتمع والتداعيات الخطيرة على منظومة الحكموعلى أوضاع الناس. إلا أن كل ذلك لم يثن قيادة أركان الجيش برئاسة الفريق أحمد قايد صالح الذي هو عملياً وزير الدفاع في غياب الرئيس، عن السعي حثيثاًبتدبير من الخارج لتكريس منطق الاستمرارية والتمديد لهذه العصبة فيما بعد 2019م!! وذلك بعدما تم إضعافُ القطب التابع لشقيق الرئيس ومَن معه، المصارع هو الآخر ضمن هذه الزمرة نفسِها المرتبطة بالإنجليز والمستمِدة نفوذها منهم منذ أيام بومدين باستخدام جبهة التحرير الوطني في الواجهة منذ ستينات القرن الماضي (في توافق مع فرنسا)، وذلك بإبعاد الكثير من رجالات شقيق الرئيس السعيد من المتزلفين أو من المقربين منه من ذوي الطموح للاستيلاء على المنصب الأعلى في الدولة من أمثال المدير العام للأمن الوطني السابق اللواء عبد الغني هامل الذي أُقيل مع الكثير من مقربيه على خلفية قضيةِ المخدرات المعروفة والصراع على النفوذ، ولربما أيضاً ضمن عمليةِ تصفية حساباتٍ قديمةٍ كما شاع.
ولا شك أن ما يحدث في الجزائر وما يُهيأ في هذه الآونة إنما هو مندرج ضمن ترتيبات المرحلة المقبلة وتمهيد الطريق لضمان "نجاح" الانتخابات الرئاسية في شهر نيسان/أبريل من العام المقبل. فقد كان واضحاً أن رئيس الأركان الذي ظل يتردد بشكل دوري ولافت على دولة الإمارات ومن خلال جولاته الكثيرة في الداخل كان يسعى منذ فترة، أي منذ انسحاب الرئيس بوتفليقة من واجهة الحكم، لتعزيز موقعه وتوسيع سلطته لإحكام القبضة على الجيش بوضع رجاله في المواقع المهمة والمراكز الحساسة في الدولة، كقادة النواحي العسكرية وقادة الوحدات القتالية ومخابرات الجيش والشرطة والدرك، على أساس الولاء للزمرة النافذة أي للقطب المهيمن على الحكم. وذلك لغرض فرض مَن سيكون رئيساً في المرحلة المقبلة، وبالتالي رسم وتحديد مستقبل البلاد وضمان النفوذ وتبعيةِ النظام بعد إزاحة كل من له طموح خارج إرادة قيادة الأركان في خلافة عبد العزير بوتفليقة في حال تقرر التخلي عنه أو تغييره نظراً لحالته الصحية واعتباراتٍ أخرى ليست ظاهرة. ولربما سوف تتكشف ملامح كيفية إخراج سيناريو تكريس الاستمرارية للعصبة النافذة في قابل الأيام خصوصاً بعدما "أنجزت بنجاح" (ولو في الإعلام الرسمي فقط) زيارةُ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يوم 17/09/2018م بعد ظهور ما ستسفر عنه زيارةُ الرئيس الفرنسي ماكرون المنتظرة في الأشهر القليلة القادمة، وهل سيكون استقباله أيضاً من طرف الرئيس بوتفليقة شخصياً، وبذلك سيُفتح الطريق لعهدة خامسةٍ له ولو بغير اسمها، أم أن الأمورَ يجري منذ الآن ترتيبُها لإعداد مَن من رموز النظام سيخلفه ليكون رئيساً للبلاد؟ ففي جميع الحالات لن يكون للشعب المسلم في الجزائر أي دور في تعيين مَن سيحكمه (كما كان الحال دوماً)، بل سيُفرض عليه من الخارج حتماً في غياب الوعي الصحيح على هويتهوانتمائه الصحيح الذي هو الإسلام العظيم عقيدةً ونظاماً وحضارةً.
إلا أنه رغم كل ما يفعله الحكامُ وقادة جيوشهم في بلاد المسلمين بحكم ارتباطهم بالمستعمرِ الغربي يجب القول إن من أعظم ما يجدر أن يتنبَّـه له المسلمون في هذا الزمان من الفخاخ التي نصبها الكافر المستعمِر لتكريس إبعادِ الإسلام عن الحكم بمنع عودة الخلافة، هي النظرة الواقعية القائلة بأن هذه الجيوش في البلاد الإسلامية ليست منّا وإنما هي من بطانة الحكام المرتبطين بالأعداء في الغرب، وبالتالي لا يصح عقلاً أن يُنتظر منها شيء!! إذ إن ولاءها بحكم نشأتها وعقيدتها القتالية هو للحكام ومَن وراءهم، ومهمتها هي حمايةُ الأنظمة العميلة التابعةِ من غضب الشعوبِ المسلمة ومنعُ هذه الأخيرة من الإطاحة بها عند حدوث أية مواجهةٍ في أية محطة من محطات صراع الأمةِ مع عدوها الحقيقي وهو الغرب الاستعماري الكافر، ولو بقتل المسلمين وسفكِ دمائهم وإزهاق أرواحهم، أي ولو بدهسهم في الشوارع والطرقات أو قصفهم بالقنابل من الطائرات!.. والأدلة من الواقع كثيرة، فقد حدث ذلك بالفعل مراراً وتكراراً في الماضي القريب والبعيد في بلاد المسلمين!! فهذه الجيوش بحسب هذا الفهم هي إذاً في صف الأعداء!! فأقرَّت هذه النظرة الواقعيةُ الساذجة بذلك واقعاً مريراً يريده ويكرسه الاستعمارُ في جميع أقطار بلاد المسلمين. وهو ما لا يعني على أرض الواقع سوى الخضوع والاستسلام وتثبيت الأوضاع القائمة لصالح الكافر المستعمِر الغربي ومنع أي حراكٍ في الأمة الإسلامية باتجاه الانعتاق من هيمنة الغربِ عدو الإسلام والمسلمين.
وليس الأمر كذلك في الحقيقة، إذ أفرادُ هذه الجيوش والقوى الأمنية بجميع أسلاكها مسلمون تماماً كما هو حال أبناء الأمةِ جميعاً من غير العسكريين ولا فرق!! كما أن جميع أسلحتها هي من أموال المسلمين!! ولكن يقع على عاتق من يعمل لإنهاض الأمةِ بالفكر والسياسة أن يوقظ فيهم جذوةَ الإيمان بإحياء العقيدة الإسلامية في نفوسهم وعقولهم، ونخوةَ الإسلام العظيم ببث الوعي السياسي من زاوية الإسلام في أوساطهم، تماماً كما في أوساط غيرهم، وذلك بضرب الفكرة الوطنيةِ أو القومية أو الطائفية المقيتةِ أو العلمانية الدخيلة على المسلمين مثلاً، إذ المشكلةُ في الأمة فكرية سياسية.
ولقد كان أيضاً من أثر هذه الواقعية ومن تداعياتها ما عليه المسلمون اليوم من عدم تحميلِ مسئولية القيام بفريضة الجهاد العظيمة لحكام الأمر الواقع ولا حتى لقادةِ جيوش المسلمين الرابضة في الثكنات. وهذا دون شك زلل فظيع! وكأن الأمةَ أعفتْهم من المهمة وصارت شعوبُـها تبحث عن بدائلَ أخرى لاسترجاع القوة والعزة أو رد العدوان غير تحريك الجيوش لتستعيض بها عن هذه الجيوش النظامية المدججة بالسلاح والمعدات، التي أفرادها مسلمون!!
علماً أن عمليةَ أخذ الحكم وإقامةِ سلطان المسلمين في بلاد المسلمين لا يمكن أن تتم إلا عبر بوابة نُصرة أهل القوة منهم. إذ طريقُ إقامة الدولة شرعاً هو الطريقُ السياسي ولا شيء سواه، ليتحرك هؤلاء باتجاه نصرة الحق ونُصرة الشعوب التي ينتمون إليها لا لحراسة أنظمةِ الحكام العملاء الظالمين في هذه الدول الوطنية. فذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، إذ هو من أجَلّ وأعظمِ أعمال الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو مكمن الخيرية في الأمة الإسلامية بشهادة كتاب الله حيث قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران:110].
وهذا هو أيضاً موضع التحدي اليومَ لقلب موازين القوى في بلاد المسلمين باتجاه قيام دولةِ المسلمين، الخلافة على منهاج النبوة وليست شيئاً آخر! وهذا في الحقيقة هو أخشى ما يخشاه الغربُ ويحترز من حدوثه من خلال حراسه من عملائه في بلاد المسلمين ومن خلال جيوشه وجواسيسه ومخابراته وجنودِ إعلامه وأجهزةِ دوله التي تسهر على منع المسلمين من التحرر منه والانعتاق من شروره.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم
رأيك في الموضوع