بالرغم من الانجراف السياسي الحادّ للسعودية نحو أمريكا بعد مجيء الملك سلمان إلى السلطة، وبالرغم من عمليات التطهير المُستدامة التي قام بها محمد بن سلمان ضد العناصر الموالية لبريطانيا في الجيش، وفي الحرس الوطني، وفي القصر، إلاّ أنّ ارتباط السعودية القديم والعميق والمُتجذّر مع بريطانيا في كل مجالات الحياة، قد جعل من الصعوبة بمكان تحجيم الدور البريطاني في السعودية فضلاً عن إنهائه، خاصة وأنّ السعودية مُحاطة بمجموعة من الدويلات الخليجية التي لها ارتباطات وولاءات سياسية تقليدية قوية مع بريطانيا، لا سيما وأنّ هذه الدويلات لا شكّ بأنّها تؤثّر على السياسة السعودية تأثيراً مُباشراً بسبب اشتراكها معها في مجلس التعاون الخليجي، الذي أوجدته بريطانيا في المنطقة لتُحافظ به على نفوذها.
وإذا أضفنا بُعداً بريطانياً آخر ضاغطاً على السياسة السعودية، ألا وهو فشلها وفشل أمريكا معها في حسم أزمة اليمن، وحاجتهما الماسّة إلى الدور البريطاني للمساعدة في الخروج من هذه الأزمة، فإنّنا نستطيع القول بأنّ زيارة محمد بن سلمان لبريطانيا كان من أهم أهدافها طلب المساعدة من بريطانيا لمُحاولة إنهاء ورطة السعودية في اليمن، والتوصل معها ومع أمريكا إلى صفقة تُنهي تلك الأزمة.
لذلك لاقت زيارة محمد بن سلمان التي استمرت 3 أيام إلى بريطانيا اهتماماً واسعاً على جميع المستويات والأصعدة، وجرى فيها توقيع اتفاقيات ضخمة في مجالات مختلفة قُدّرت قيمتها بـ 100 مليار دولار أمريكي.
وقد أكّدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على عنوان هذه الزيارة بأنّها "ستؤسّس مِنصّة لتعزيز العلاقات الثنائية"، ووصف ابن سلمان العلاقة الخاصة القائمة بين السعودية وبريطانيا والتي تعود إلى أكثر من 100 عام بقوله: إنّ "العلاقة بين السعودية وبريطانيا هي علاقة تاريخية وتعود إلى تأسيس المملكة، كما أن لدينا مصلحة مشتركة تعود إلى الأيام الأولى من العلاقة، وإن العلاقة مع بريطانيا اليوم هي علاقة عظيمة" وقال بأنّه "يأمل في أن تكون الشركات البريطانية قادرة على الاستفادة من التغيرات العميقة التي تحدث في السعودية"، وأكّد على أنّه "ستكون هناك فرصٌ ضخمة للندن نتيجة لرؤية 2030".
من جهتها أشادت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين، وقالت إنّ "الشراكة بين الرياض ولندن تساعد بالفعل في جعل بلدينا أكثر ازدهاراً من خلال توفير آلاف فرص العمل في المملكة المتحدة، وفتح فرص هائلة للشركات البريطانية في السعودية".
وتحدّث عن الموضوع نفسه وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون فقال: "إنّ الزيارة ستكون فرصة لتعزيز علاقتنا مع السعودية، وإنّ عشرات الآلاف من الوظائف البريطانية تعتمد على صادراتنا إلى السعودية والتي ارتفعت لتصل قيمتها إلى 6.2 مليار جنيه في عام 2016 أي بزيادة نسبتها 41% منذ عام 2010".
وكان التبادل البريطاني - السعودي قد شهد في السنوات الخمس الماضية زيادة فاقت 2.3 مليار جنيه إسترليني، وفي عام 2016 بلغ حجم التجارة من سلع وخدمات نحو 9 مليارات جنيه إسترليني، وتُعتبر السعودية منذ عام 2010 ثالث أكبر الأسواق نمواً للصادرات البريطانية، كما تُعتبر بريطانيا ثاني أكبر مستثمر أجنبي تراكمي في السعودية بعد أمريكا، وهناك نحو 300 مشروع بريطاني - سعودي مشترك، فيما تبلغ القيمة الإجمالية للاستثمارات نحو 17.5 مليار دولار أمريكي.
ويعتبر الاقتصاد أهم مُحرّك في العلاقات السعودية البريطانية، إذ يصل حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلى أكثر من 17 مليار ريال سعودي، وهناك 374 ترخيصا استثماريا بريطانيا في السعودية برأس مال إجمالي قدره 3.4 مليار دولار أمريكي.
وفي ختام الزيارة تمّ الإعلان عن إطلاق (الشراكة الاستراتيجية) لتكون آلية رئيسية لحوار منتظم لتعزيز كل جوانب العلاقة الثنائية بما يشمل المجالات الاقتصادية والدفاع والأمن والمساعدات الإنسانية والمواضيع الإقليمية والدولية، واتفق الطرفان على خطة تنفيذ عملية لتحقيق هذه الشراكة الاستراتيجية، ومتابعتها، في اجتماعات أخرى خلال عام 2018، وتمّ التزام السعودية وبريطانيا بشراكة طويلة الأجل لدعم تحقيق ما يُسمّى برؤية 2030 بحيث تشمل مجموعة من المجالات بما في ذلك: تقييم الفرص والاستثمارات المتبادلة مع بريطانيا من قبل صندوق الاستثمارات العامة، والتجارة البينية بين البلدين، والمشتريات العامة من القطاع الخاص لبريطانيا في المجالات الأولوية لرؤية 2030، بما في ذلك: التعليم والتدريب والمهارات، والخدمات المالية والاستثمارية، والثقافة والترفيه، وخدمات الرعاية الصحية وعلوم الحياة، والتقنية والطاقة المتجددة، وصناعة الدفاع.
كما تمّ توقيع مذكرة تفاهم بين الدولتين تتعلّق بالشراكة في تطوير منهجيات التعليم وبناء القدرات، وقد عيّنت بريطانيا السير أنطوني سيلدون ليكون مبعوثا خاصاً للتعليم لدعم رؤية 2030، وعيّنت أيضاً السير مايك ريتشارد مبعوثا خاصا لها للرعاية الصحية لدعم الرؤية، وتمّ أيضاً الاتفاق على بيع بريطانيا للسعودية 48 طائرة تايفون حربية.
ومن أخطر ما تمّ الاتفاق عليه فيما يتعلّق بالناحية الأمنية قيام السعودية بتزويد بريطانيا بالمعلومات الاستخبارية (الخام) عن كل شيء، وعن كل شخص، وعن كل حدث، تحصل عليه الحكومة السعودية، وذلك قبل تحليلها وتصنيفها وفلترتها.
إنّ مُجرّد استعراض مثل هذه العلاقات المُتميّزة والمُتداخلة، ومُلاحظة مدى حجم هذا التغلغل البريطاني في كل مفاصل الحياة السعودية من خلال هذه الزيارة فقط، إنّ مُجرد ذلك يدل دلالة واضحة على صعوبة إمكانية تحجيم النفوذ البريطاني في السعودية بشكل نهائي، ويدل على أنّ هذه الدولة السعودية التابعة للغرب تبعية مُطلقة، والعميلة للبريطانيين والأمريكيين منذ إنشائها ابتداء على يد الإنجليز، ثمّ بعد دخول النفوذ الأمريكي إليها، ما زالت خاضعة لنفوذ الدولتين - أمريكا وبريطانيا - وإنّ هذه الدولة لا يُمكن أنْ تتحوّل بولائها بشكلٍ كامل نحو أمريكا، بل سيبقى فيها النفوذان الأمريكي والبريطاني ما دامت قائمة، وسيبقى الصراع والتنافس بينهما عليها قائماً من دون حسم نهائي لصالح أيٍّ منهما ما دامت هذه الدولة السعودية موجودة.
ولن يخرج النفوذان الأمريكي والبريطاني منها نهائياً إلاّ بزوال حكم آل سعود من الوجود، ولن يزول هذا الحكم الباطل إلاّ بإقامة دولة الإسلام الحقيقية؛ دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة على أنقاض هذه الدولة السعودية المُصْطنعة الهشّة.
رأيك في الموضوع