مع بداية العام 2018، بدأت الأزمة الاقتصادية تمسك بخناق الأوضاع السيئة أصلاً في السودان؛ والتي جعلت العملة المحلية تصل لأدنى مستوى لها مقابل الدولار، والعملات الأخرى، حيث أصبح الدولار الواحد يساوي أكثر من أربعين جنيهاً، وكانت الكارثة في الميزانية التي وضعتها الحكومة لهذا العام، إذ اعتمدت اعتماداً كلياً على الضرائب والجمارك بنسبة تفوق 63%، والباقي ديون ربوية، ورافق ذلك زيادة سعر الدولار الجمركي من 6.9 جنيه، إلى 18 جنيهاً للدولار الواحد، كما عملت الحكومة على رفع الدعم عن القمح، وتركته للتجار، فارتفع سعر جوال الدقيق سعة خمسين كيلو جراما، من 164 جنيهاً إلى 450 جنيهاً، فصارت قطعة الخبز الواحدة، تباع بجنيه، وهي قطعة لا تشبع قِطاً ناهيك عن إشباعها لإنسان، أدى كل ذلك إلى ارتفاع جنوني لكل السلع والخدمات، فتضاعف سعر كل شيء إلى الضعف أو الثلاثة أضعاف، فصار صاحب كل صنعة، وصاحب كل مهنة يرفع السعر ليقابل هذا الغلاء الفاحش، فانعكس كل ذلك على الأغلبية العظمى من الناس، فخرج بعضهم إلى الشارع، محتجاً على الأوضاع الاقتصادية المزرية، فكان نصيبهم الضرب والاعتقال والسجن...
ثم قامت الحكومة بمعالجات عرجاء لمقابلة هذه الحالة التي تنذر بانهيار الدولة، وانفراط عقدها، فمنعت الناس أموالهم التي في المصارف إلا بمقدار، في خطوة غير موفقة قصدت منها تجفيف السيولة، بداعي أن الناس صاروا يدخرون أموالهم بالدولار، بعد أن كشفت الدولة بنفسها، أنها طبعت مليارات الجنيهات بلا مقابل إنتاجي، وضختها في السوق، مما أوجد هذا التدني المريع لقيمة العملة المحلية. ولكن رغم ما قامت به، وتقوم به الحكومة من معالجات، لا تمس جذور الأزمة، فإن الأوضاع ما زالت في سوئها، لم يتغير الحال، إلا إلى الأسوأ، ولم تزل الأسعار في عليائها، فلجأت الحكومة، في محاولة منها لامتصاص نقمة الشارع، للحديث عن الفساد والمفسدين، ومن سموهم بالقطط السمان الذين لم تفصح عنهم من هم هؤلاء السمان، وماذا يعملون؟ ثم بدأ الحديث عن التغيير، ولكنه تغيير للوجوه فقط، وليس تغييراً للسياسات، فكان أول هذه التغييرات هو الإطاحة بمدير جهاز الأمن والمخابرات محمد عطا المولى، وإعادة صلاح قوش، الذي كان مديراً للجهاز قبل تسع سنين، ثم قام هو بعد هذا التعيين بإحالة مجموعة من ضباط الأمن والمخابرات من مناصبهم، ثم لاحقتهم الإشاعات في مواقع التواصل (الواتساب والفيس بوك وغيرها)، بأنهم كانوا يتاجرون بالدولار والسكر وغيرها من السلع. ثم كان التغيير الثاني بإقالة نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، مساعد رئيس الجمهورية إبراهيم محمود، والإتيان بفيصل إبراهيم مكانه، وبدأ الحديث عن ضرب الفساد والمفسدين، ثم الحديث عن الأداء الضعيف لوزراء حكومة الوفاق الوطني.
وفي الأثناء قام رئيس الدولة، القائد الأعلى للقوات المسلحة عمر البشير، بإقالة رئيس هيئة الأركان، وإحالة بعض الضباط في الجيش إلى التقاعد، وترقية آخرين، وتبقى تغيير الوزراء حتى تكتمل صورة التغيير الذي يتحدثون عنه. ولكن الواضح أن هذه التغييرات للوجوه، دون الحديث عن تغيير السياسات، والأسس التي تقوم عليها الدولة، هي نوع من ذر الرماد في العيون، وهي تسكين لن يستمر مفعوله طويلاً، لأن القضية ليست في الأشخاص، وإنما في المنهج الذي تدار به الدولة، وفي النظام الرأسمالي الجشع والمتوحش الذي تسير على ضلالته الحكومة، ويكفي هنا أن نذكر بأن كل هذه المصائب سببها روشتة صندوق النقد الدولي الذي لا يهمه غير ضمان الفوائد الربوية التي يأخذها أسياده من دماء الغلابى، وعرق المسحوقين من أبناء هذا البلد الذي حباه الله بخيرات ظاهرة وباطنة، لو استغلت في مصلحة البلاد وأهلها لصار السودان حقاً سلة غذاء العالم، وليس شعارات جوفاء، فإن ديون السودان التي فاقت الخمسين مليار دولار، هي في الأساس لا تتجاوز العشرة مليارات، تم دفعها عشرات المرات لصناديق الربا الدولية، التي تستنزف ثروات البلاد، ولا تترك لهم حتى الفتات، فتضطر الدولة لمزيد من القروض، والاعتماد على المكوس الحرام، والضرائب، وجيوب الناس، للصرف على جيوش المستوزرين والدستوريين، وغيرهم من حاشية الحكام. ثم إن الهدف أيضاً من هذه التغييرات، هو بقاء البشير في الحكم، فكل الرجال الذين أتى بهم، يعتبرون من أخلص الرجال له، وأن الذين تم إبعادهم، مشكوك في ولائهم التام لعمر البشير، وبذلك يكون البشير قد اصطاد عصفورين بحجر التعديلات الأخيرة هذه، فأوجد تسكيناً مؤقتاً للأزمة، وشغل الناس بالتغيير الشكلي، ثم أتى بمن يطمئن إليهم في المرحلة المقبلة.
إن التغيير المطلوب هو تغيير الأساس الذي تقوم عليه الدولة، من المبدأ الرأسمالي الديمقراطي، في الحكم والسياسة والاقتصاد، إلى أساس الإسلام العظيم، ومبدئه القويم، الذي هو أحكام من رب العالمين، فتقوم الدولة على أساس (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فيبايع رجل على أساس كتاب الله وسنة رسوله e ليكون خليفة للمسلمين، وأميراً للمؤمنين، يحسن رعاية الشئون، ويقطع دابر الكافرين، ويضع الربا الذي هو حرب على الله رب العالمين وعلى رسوله الأمين، ويدير الاقتصاد بأحكام الإسلام العادلة، التي أنزلها اللطيف الخبير، فتعود الحياة آمنة مطمئنة، في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، يرضى عنا خالقنا، ونقوم حكاماً ومحكومين، بواجب الشهادة على الأمم والشعوب، بحمل الإسلام العظيم وأحكامه إلى العالمين... هذا هو الطريق، ولا طريق غيره للخروج من الأزمات والكوارث.
* الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع