إنّ الأوضاع السياسية والعسكرية في ليبيا تعكس حالة فوضى سياسية عارمة، فالقوى المحلية التابعة لأمريكا وأوروبا تتصارع لزيادة نفوذها على الأرض، وللحصول على مكاسب جديدة، وهناك ثلاث قوى سياسية رئيسية في ليبيا وهي:
أولاً: حكومة الوفاق الوطني
وهي الحكومة المعترف بها دوليا، ويرأسها فايز السراج وهو ذو توجه قومي وطني، تشكلت حكومته في شباط/فبراير عام 2016 بموجب اتفاق مدينة الصخيرات في المغرب المُوقّع في 17 كانون الأول/ديسمبر عام 2015 والذي رعته بريطانيا والدول الأوروبية، وتحوّل إلى اتفاق دولي رعته الأمم المتحدة، وقبلت به أمريكا بحكم الأمر الواقع، ووجد ما سُمّي بالمجلس الرئاسي الليبي الذي انبثقت عنه حكومة السراج.
ثانيا: حكومة طبرق
انبثقت حكومة طبرق عن برلمان طبرق وهو البرلمان الأخير المنتخب في ليبيا، ومقرّها بمدينة البيضاء شرقي ليبيا، ويترأسها عبد الله الثني، وقد اختار الثني الاستناد إلى قوة خليفة حفتر المدعومة من أمريكا، ومن خلال عميلها السيسي، والتي استند إليها حفتر لأخذ شرعيته.
وبالرغم من أنّ حكومة الثني دعمت حكومة الوفاق إلا أنّها عادت واتفقت مع حكومة الإنقاذ في تشرين الأول/أكتوبر 2016 على تشكيل حكومة وحدة وطنية، تكون بديلاً عن حكومة الوفاق.
ثالثاً: حكومة الإنقاذ
وهي حكومة سبقت حكومة الوفاق الوطني زمانياً، وقد انبثقت عن المؤتمر الوطني العام الليبي في آب/أغسطس 2014، ومقرها في العاصمة طرابلس الغرب، ويترأسها خليفة الغويل، ورعتها بريطانيا والدول الأوروبية، إلاّ أنّها خسرت في الانتخابات، ولم تعد تحظى بأي اعتراف دولي.
سيطرت حكومة الإنقاذ على أجزاء واسعة من غرب وجنوب ليبيا نهاية 2014 وبداية 2016، ودُعمت من قبل مجموعات إسلامية كمجلس شورى ثوار بنغازي الذين قاتلوا خليفة حفتر بشراسة.
وكانت قد أعلنت حكومة الإنقاذ في 5 نيسان/أبريل 2016 عن مغادرة السلطة، وفسحت المجال لحكومة الوفاق الوطني لتسلم الحكم بعد أقل من أسبوع من دخولها البلاد، غير أنّها تراجعت عن دعم السرّاج، وسيطرت يوم 14 تشرين الأول/أكتوبر 2016 على مقار المجلس الأعلى للدولة في العاصمة طرابلس، بالتعاون مع جهاز الأمن الرئاسي المكلف بحماية المجمع الرئاسي، وأعلن خليفة الغويل رئيس حكومة الإنقاذ أنّ حكومته هي الحكومة الشرعية المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام، ووجّه دعوة مباشرة إلى عبد الله الثني رئيس حكومة طبرق المؤقتة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية ومن دون وساطة أجنبية، وهكذا عادت حكومة الإنقاذ مرّةً ثانية إلى الواجهة السياسية.
وتلعب مليشيات عديدة دورًا مهمّاً في تثبيت حكومتي السراج والإنقاذ ومن أهمها كتائب مصراتة، وكتائب تيار الإسلام السياسي، فيما تعتمد قوات حفتر على بقايا الجيش الليبي المدعوم من مصر والإمارات في الشرق الليبي، بالإضافة إلى كتائب الزنتان التي تُناصره في الغرب.
وحالة الاضطراب السياسي والعسكري التي تشهدها ليبيا تعود إلى كون أمريكا تُحاول من خلال حفتر السيطرة على ليبيا لتكون قاعدة ارتكاز لها في ليبيا، لذلك قامت بأعمال سياسية عديدة إلى جانب التوسع العسكري الذي قام به حفتر من خلال قيام قواته بالسيطرة على منطقة الهلال النفطي في 12 أيلول/سبتمبر 2016، التي تشمل مينائي السدرة ورأس لانوف، ثم ميناء الزويتينة، لتحكم بذلك سيطرتها على كامل الهلال النفطي.
أمّا الأعمال السياسية التي قامت بها أمريكا وأربكت بها عمل الأوروبيين فتمثلت في محاولات عقد مصالحات بين حفتر في الشرق، ومعه عقيلة صالح رئيس مجلس نواب طبرق، وفايز السرّاج رئيس حكومة الوفاق في الغرب.
وكذلك إقحام أمريكا لروسيا في حراكها السياسي، ومن ذلك زيارة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح لموسكو، وحديثه عن وجود تفهم روسي للأوضاع في ليبيا، ومن قبل زيارة سفن حربية روسية للموانئ الليبية واجتماع بحارتها بحفتر.
وبالرغم من فشل تلك المصالحات إلا أنها أوجدت حراكًا سياسيًّا فاعلا، استخدمت به أمريكا المخابرات والحكومة المصرية، وأحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، وظهر من خلاله إصرار أمريكا على أن يكون حفتر موجوداً في أي اتفاق سياسي مستقبلي، وأنْ يكون هو المسؤول عن الملف الأمني والعسكري في أي حكومة قادمة، أو إنّ البديل بالنسبة لها هو استمرار حالة الحرب مهما طال وقتها، وهذا الحراك السياسي الأمريكي قد أضعف كثيرًا السراج والقيادات التابعة لبريطانيا وأوروبا في الغرب الليبي، ممّا دفعها لإيجاد حراك سياسي موازٍ من خلال الجزائر، حيث مثّلت زيارة حفتر المفاجئة إلى الجزائر أبرز الشواهد على حدوث حراك إقليمي بدفع بريطاني وأوروبي أكثر واقعية في التعامل مع الأزمة الليبية، وقال مصدر حكومي جزائري إن: "الخيار الوحيد الباقي في ليبيا هو الحل السياسي القائم على الحوار الشامل بين الليبيين والمصالحة الوطنية وهو ما تسعى إليه الجزائر مع جميع أطراف الأزمة الليبية"، وبذلك تكون بريطانيا قد استوعبت الهجمة السياسية الأمريكية، وانحنت أمام عاصفتها.
لقد تعاملت بريطانيا بمرونة سياسية واضحة إزاء هذا الحراك الأمريكي، فهي لم تعد تُصر على الالتزام باتفاق الصخيرات بحذافيره كما كانت تفعل من قبل، فقد أبدى السفير البريطاني لدى ليبيا بيتر ميليت إحباطه من وتيرة حركة المصالحة في ليبيا وقال بأنّ "الاتفاقية ليست نصًا مقدسًا وهناك مجال لمراجعتها إذا اتفق الليبيون على الذهاب في هذا الاتجاه"، وكذلك فعل المبعوث الأممي المُنتهية ولايته مارتن كوبلر والذي أعلن عن إمكانية تعديل بنود اتفاق الصخيرات.
لقد عكست هذه التحركات السياسية الأمريكية والبريطانية ومعها الدول الأوروبية كإيطاليا التي تستورد من ليبيا ما يقارب 80% من احتياجاتها من الطاقة، لقد عكست هذه التحركات مدى حدة الصراع بين مختلف الأطراف والقوى السياسية والعسكرية العاملة على الساحة الداخلية الليبية حيث يحاول كل طرف جاهدًا بسط نفوذه، وتغيير معادلات القوة بما يخدم مصالحه، وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام احتمال انهيار كل الاتفاقيات السابقة والعودة بالأمور إلى نقطة الصفر.
وفي خضم هذه الوقائع يأتي اختيار مبعوث أممي جديد إلى ليبيا إذ وافق مجلس الأمن الدولي في 27/6/2017 وبعد جهدٍ جهيد على تعيين وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة خلفًا لمارتن كوبلر المُنتهية ولايته، ولينهي بذلك خلافًا بين القوى الكبرى المُتصارعة على تعيين مبعوث لليبيا دام أربعة أشهر، وغسان سلامة هذا درس القانون الدولي في جامعة باريس، وهو عميد معهد باريس للشؤون الدولية، وأستاذ العلاقات الدولية في معهد العلوم السياسية في باريس وفي جامعة كولومبيا بنيويورك، وهو بهذه الخلفية يبدو أنّه ذو ميولٍ فرنسية، لكنّه مع ذلك خدم أمريكا في العراق بعد الغزو الأمريكي في العام 2003 وساهم في إنشاء مجلس الحكم الانتقالي في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وبهذه الخلفية يبدو أنّه كان أفضل المرشحين قبولاً لدى الطرفين الفاعلين على الساحة الليبية وهما الأمريكان والأوروبيون.
وهكذا تبقى خريطة القوى السياسية في ليبيا في حالة تعادل بين القوى الاستعمارية، وتبقى ليبيا في حالة خراب إلى أنْ يأذن الله سبحانه وتعالى بقيام دولة الإسلام، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تقضي على كل هذا النفوذ الاستعماري.
رأيك في الموضوع