الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت مؤخرا في فرنسا حيث أقصت الزعامات التقليدية والأحزاب اليمينية واليسارية المعتدلة التي تداولت على حكم فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية وأبعدت شبح وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، وأتت برجل مثل ماكرون يعتبر شابا وبوسط سياسي جديد، يتبين أن الفرنسيين أرادوا التجديد في سياستهم، ولكنهم أرادوا الحفاظ على الأساس فيها وإنما بتجديد الأساليب والمواقف واتخاذ سياسات تعالج القضايا لا أن تجمدها.
ولهذافإن أهم ما اتسمت به سياسة ماكرون أنها أوروبية تهدف إلى الحفاظ على الاتحاد الأوروبي، وهذا أساس في سياسة فرنسا، ولهذا فاز بنسبة 66% من الأصوات، وأبعد اليمين المتطرف المعارض للاتحاد الأوروبي. أي أن الشعب انتخبه لأن سياسته أوروبية. وأعلن عقب فوزه وهو يصعد على المنصة على أنغام النشيد الأوروبي قائلا: "فرنسا قوية داخل اتحاد أوروبي قوي".
وأعلن استعداده للعمل مع ألمانيا في كل الجوانب المهمة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية حتى يعزز موقف فرنسا ويحافظ على الاتحاد الأوروبي. وآخر تحديث لذلك، جاء التأكيد عليه عقب اختتام قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم 23/6/2017 حيث أكد الرئيس الفرنسي ماكرون مع المستشارة الألمانية ميركل في لقاء ضمهما "على ضرورة الحفاظ على وحدة أوروبا، لأن قوتها تكمن في وحدتها، وضرورة مواصلة العمل المشترك لتجاوز التحديات التي تواجه الاتحاد". وواجه بريطانيا في موضوع مفاوضاتها للخروج من الاتحاد عند اجتماعه برئيسة وزرائها ماي يوم 27/5/2017 قائلا: "أوروبا ستكون موحدة في مفاوضات بريكست"، وبابتعاد بريطانيا عن الاتحاد يتعزز المحور الفرنسي الألماني الدولي حيث كان التحرك الثنائي الدولي بين بريطانيا وفرنسا يضعف هذا المحور.
وقد ذكر ماكرون أثناء حملته الانتخابية أنه سوف "يتبع مسار ديغول وميتران"، فهو يعلن أن سياسته تجمع بين الديغولية واليسارية، وهذا يعني أنه سيعمل على تعزيز المركز الأوروبي الداخلي والدولي على شاكلة سياسة ديغول بتقوية الاتحاد الأوروبي ومحاولة قيادته وبالتقوي بألمانيا في مواجهة أمريكا وروسيا، بجانب التقارب من أمريكا والعمل معها على شاكلة سياسة ميتران. فهو يريد أن تكون فرنسا متحالفة مع أمريكا لتحقيق مصالح بلاده على شرط ألا تكون فرنسا تبعا لأمريكا متعاملة معها بالند. وكان الاجتماع الأول بين الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الأمريكي ترامب على هامش قمة الناتو في بروكسل يوم 25/5/2017 والمصافحة القوية التي أطالها ترامب وهو الذي يعبر عن سياساته أحيانا بالحركات اليدوية أو الجسدية ليظهر قوة أمريكا وتعاليها وغطرستها، وهو الذي رفض مصافحة المستشارة الألمانية في البيت البيضاوي يوم 18/3/2017 رافضا النظر إليها ليعبر عن غضبه لعدم خضوعها لابتزازاته بأن تدفع ألمانيا المليارات مقابل حماية أمريكا لها بعد الحرب العالمية الثانية. ولذلك وصف ماكرون مصافحته مع ترامب بأنها "لم تكن بريئة" وأنها "كانت لحظة الحقيقة" وقال: "إنه أراد أن يظهر أنه لن يقدم تنازلات حتى لو كانت صغيرة أو رمزية، لكني لم أكن أيضا مستعدا للمبالغة في فعل أي شيء".
ومن هذا المنطلق تأتي تصريحات ماكرون الأخيرة المتعلقة بسوريا، فقال: "منظوري الجديد بشأن هذه المسألة هو أنني لم أقل إن رحيل بشار الأسد شرط مسبق لكل شيء لأني لم أر بديلا شرعيا". ولفت إلى أن "الأسد هو عدو للشعب السوري لكن ليس عدوا لفرنسا، وأن أولوية باريس هي الالتزام التام بمحاربة الجماعات (الإرهابية) وضمان ألا تصبح سوريا دولة فاشلة". بتصريحاته هذه تجاه سوريا يظهر أنه لا يريد أن يصطدم مع أمريكا كما فعلت ألمانيا، وهو يتناغم مع مواقف أمريكا حتى تشركه في العملية السياسية، وكذلك مع موقف روسيا هناك الذي هو تبع للموقف الأمريكي. لأنه رأى أن السياسة التي اتبعها أولاند كانت تتسم أحيانا بالمجابهة والتي لم تفد فرنسا بأن تفرض نفسها على أمريكا لتشركها في الشؤون الدولية وخاصة في الشأن السوري. وفي الوقت نفسه يعارض سياسة أمريكا بالتدخل العسكري فقال "إنه مستعد للعمل مع أمريكا حال تشكل مثل هذا الوضع" مشيرا إلى الأسلحة الكيماوية، وقال: "إن المسألة تحتاج إلى خارطة طريق دبلوماسية وسياسية... القضية لا يمكن حسمها بنشر قوات عسكرية فقط فهذا خطأ ارتكبناه معا". وانتقد "التدخل في العراق وفي ليبيا وأن نتائجه كانت مدمرة... وأنه لا يريد حدوث ذلك في سوريا". فهو يعلن رفضه للتدخل الأمريكي العسكري في سوريا، وليس تنزها عن التدخل، وإنما للضغط على أمريكا لتشرك فرنسا في اللعبة التي تلعبها في سوريا وقد أقصت أوروبا عنها، فهي تعلن أنها ستتدخل إذا تشكل وضع يسمح لها بالتدخل، أي إذا سمحت لها أمريكا، فهي دولة استعمارية لا تختلف عن أمريكا، ولن تتغير هذه السياسة حتى يسقط المبدأ الرأسمالي الذي تعتنقه وكافة الدول الغربية.
وأما سياسته تجاه روسيا فقد قال أثناء الحملة الانتخابية: "نحن بحاجة إلى حوار بناء مع الرئيس بوتين، ولكن تحت أي ظرف من الظروف لا يمكننا التغاضي عما يستحسنه أو يدعمه الجانب الروسي، وينبغي أن نضع روسيا وجها لوجه أمام مسؤوليته". وقام بوتين بزيارة فرنسا يوم 29/5/2017 بمناسبة افتتاح معرض حول زيارة القيصر الروسي بطرس الأكبر لفرنسا قبل 300 سنة واجتمع مع ماكرون في محاولة لتلطيف الأجواء بين بلديهما بعدما انتقدت فرنسا قبل سبعة أشهر القصف الروسي لحلب واعتبرته أنه يرقى إلى جرائم حرب واضطر بوتين إلى إلغاء زيارته لباريس آنذاك لافتتاح كنيسة روسية. وكانت روسيا قد شنت حملة ضده وأيدت منافسته لوبان. وقال ماكرون عقب اجتماعه مع بوتين: "فرنسا بحاجة إلى التعاون مع الجانب الروسي فيما يتعلق بملفي (الإرهاب) وسوريا". ومن كل ذلك يتبين أن سياسة فرنسا تجاه روسيا لن يجري عليها تغيير جوهري، فتعمل على التلاقي معها لعرقلة سياسة أمريكا باستخدام روسيا ضد أوروبا، ولكن تبقى تجابه روسيا في العديد من القضايا وخاصة في قضية أوكرانيا.
وكلمة أخيرة فيما يهمنا في سياسة فرنسا، هو أنها دولة استعمارية، تجعل مطامعها الاستعمارية والسيادية للمحافظة على موقعها كدولة كبرى وتعزيزه وعداوتها للإسلام وعودته كنظام حكم وطراز عيش محور سياستها الخارجية، فهي تتقلب حسبما يحقق مصالحها ضمن هذه السياسة، فلا يهمها الشعب السوري بشيء، فهي عدوة للإسلام والمسلمين وتاريخها حافل بذلك منذ الحروب الصليبية مرورا بحقبة الاستعمار القديم ووصولا إلى شكل الاستعمار الجديد وبلوغا إلى يومنا الحاضر. ولهذا يجب أن نضع ذلك في حساباتنا ونحن نتعامل معها، ودولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القائمة قريبا بإذن الله ستتخذ المواقف المناسبة تجاهها وتستغل الصراعات الدولية في محاولة إبعاد شرها وشر أخواتها، ومعرفة عوامل ضعفها وقوتها حتى تتمكن من تطهير بلادنا من براثن استعمارها واستعمار غيرها بكل أشكاله وخاصة في أفريقيا.
رأيك في الموضوع