(مترجم)
كشف الرئيس الصيني (شي جين بينغ) الأسبوع قبل الماضي في مراسم افتتاح (منتدى الحزام والطريق) عن خطة لتقديم حوالي 20 مليار دولار من المساهمات الإضافية لصندوق طريق الحرير؛ وفي الوقت الذي رحّبت فيه باكستان بهذه الأموال الإضافية وأشادت بعلاقاتها الوثيقة مع الصين، جعل ذلك المصالح الأمريكية على المحك تحت عنوان: "باكستان: المستعمَرة الاقتصادية القادمة للصين"، ومن المؤكد أن السياسيين الباكستانيين يعترضون على ذلك. أمريكا ليست وحدها التي انتقدت مشروع الصين الطموح ودور باكستان الثانوي فيه، بل الهند أيضًا تشتكي منذ فترة طويلة من تطور العلاقة الصينية الباكستانية ولجأت إلى بناء "الجدار الاستراتيجي" الخاص بها مع اليابان لتعزيز مشاريع البنية التحتية فيها. هذا يطرح سؤال: لماذا تشتكي العديد من البلدان من مبادرة طريق الحرير الصيني؟
لعل الجواب يكمن في تصريحات جين بينغ "لتعزيز نوع جديد من العلاقات الدولية" التي فسّرها البعض بأنها تعني نظامًا عالميًا جديدًا من صياغة الصين وليس من صياغة أمريكا. يؤيد عدد قليل من المعلقين فكرة أن دافع بكين وراء مشروع الحزام والطريق هو طرد أمريكا كقوة مؤثرة في أوراسيا.
لفهم الآثار المترتبة على هذا التحرك السياسي، أي سيطرة الصين على أوراسيا، فإنه يجدر بنا مراجعة النظرية الجيوسياسية للمنطقة سريعًا.
في الجغرافيا السياسية، يُعدّ دور الجغرافيا أمرًا بالغ الأهمية في فهم السياسة الخارجية للبلد، ولفهم الواقع السياسي في أوراسيا، يجب فهم الرؤيتين السياسيتين في أوراسيا. في عام 1904م، نشر المتخصص البريطاني في الجغرافيا (هالفورد ماكيندر) مقالة تحت عنوان: "المحور الجغرافي التاريخي" حدد فيها نظرية "هارتلاند"، ويمكن تلخيص المحور الرئيسي لهذه النظرية بأنه "من يحكم أوروبا الشرقية يتحكم بهارتلاند؛ والذي يحكم هارتلاند يقود جزر العالم (أوروبا وآسيا وأفريقيا)، والذي يحكم جزر العالم يحكم العالم"، ووفقًا لماكيندر، تتكون "هارتلاند" من أوروبا الشرقية وآسيا، والتي تعرف أيضًا باسم المنطقة المحورية، ورشّح ماكيندر القوى الدولية مثل ألمانيا وروسيا للسيطرة على السياسة العالمية، وقد شهدت توقعات ماكيندر بعض النجاح مع الاتحاد السوفيتي.
لقد ساهم الكاتب الاستراتيجي الأمريكي (سبيكمان) في نشر نظرية "ريملاند" التي تؤكد أن مجموعة البلاد الساحلية التي تطوق أوراسيا هي أهم من قلب العالم في تقرير مستقبل أوروبا وآسيا وأفريقيا؛ وفي رأي سبيكمان القوة البحرية لها تأثير أقوى من القوة البرية وهي التي تقرر مصير أوراسيا، ووفقًا لهذه النظرية فإنه من الضروري السيطرة على الدول البحرية التي تمتلك مصادر الطاقة (من دول الخليج العربي وصولًا إلى اليابان)، ومن خلال القيام بذلك، يمكن احتواء القوى البرية مثل روسيا والصين بدرجة أقل.
لقد أثرت هاتان النظريتان تأثيرًا كبيرًا على صانعي السياسة الخارجية في أمريكا، واستخدم المفكرون الأمريكيون الحديثون مثل كيسنجر وبريجينسكي الاختلافات بين ماكيندر وسبيكمان لتبني مفاهيم مثل البلقنة وعدم الاستقرار وأهمية آسيا والمحيط الهادئ من بين أفكار أخرى.
يمكن القول بأن احتواء ألمانيا من خلال الناتو وعدم قدرة الاتحاد الأوروبي على تحدي الأولوية الأمريكية وهزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط والأزمة الحالية في شبه الجزيرة الكورية كلها جزء من نجاحات السياسة الأمريكية المستمدة من تطبيق النظريات الجيوسياسية.
كما هو الحال مع جميع النظريات فإنه من الصعب الحفاظ عليها سرًا، والخصوم في نهاية المطاف سوف يتعلمون التكيف معها أو تبنّيها. وبالتدقيق فيما وراء مسعى الحزام والطريق الصيني يتبين أن بكين تتطلع لإنشاء بنية تحتية تمكنها من التحول إلى قوة عظمى ذات إمكانيات عالمية، وتهدف إلى السيطرة على "هارتلاند" واستغلال نظرية (ريملاند) من خلال هذه المشاريع الطموحة. على سبيل المثال، (CPEC) أو (كبيك) سوف يساعد الصين على شحن البضائع من الخليج العربي عبر ميناء جوادر في باكستان من خلال السكك الحديدية إلى الطريق السريع كاراكورم ثم إلى البر الرئيسي للصين؛ وباكستان هي قطعة واحدة فقط من طريق الحرير البحري الصيني، فهي جزء من مشروع مبادرة الحزام والطريق، فيبدو أنها محاولة للسيطرة على موانئ ريملاند. إن هذا لا يساعد الصين على التحايل على الممرات البحرية التي تسيطر عليها أمريكا فحسب، بل يمكّنها أيضًا من استغلال هذه الموانئ لأغراض عسكرية لمقاومة الهيمنة الأمريكية. خلافًا لروسيا، فإن الصين ليست محاطة بكثافة بدول "هارتلاند"، ولها وجود بحري يتناسب مع صفات القوة البحرية.
المؤسف في هذه المناورات الجيوسياسية من قبل القوى العظمى هي أن العالم الإسلامي الذي يتمتع بقدرات هائلة غير قادر على المشاركة في هذا الصراع ومن تقرير مصيره بنفسه! بل على العكس من ذلك، فإن موارد البلاد الإسلامية مثل الموانئ والطرق والجنود والهيدروكربونات والطرق المائية... وما إلى ذلك كلها وضعت لخدمة القوى العظمى للسيطرة على المسلمين في أوراسيا، وبدلًا من استخدام تلك الموارد نفسها والأدوات اللازمة لتحرير المسلمين من آسيا الوسطى إلى تركستان الشرقية، ومن الشرق الأوسط إلى أفريقيا، لا يرى حكام المسلمين الأقنان أي عار في الاستسلام للقوى العظمى والخضوع لأهوائهم.
لقد كانت الدولة الإسلامية في الماضي فريدة من نوعها في كل شيء، فقد كانت تجمع بين كل من القوة البرية والقوة البحرية، وتسيطر بشكل لم يسبق له مثيل على بلاد أوراسيا لمدة ألف عام، وما لم يتوحد المسلمون تحت راية الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، فإن الأمة ستظل خاضعة للقوى العظمى العالمية.
بقلم: عبد المجيد بهاتي
رأيك في الموضوع