في خطوة كانت مُتوقعة أعلن الرئيس الأمريكي يوم الخميس الأول من حزيران/يونيو 2017 انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ التي تمّ التوقيع عليها فيكانون أول/ديسمبر 2015 من قِبَل كل دول العالم باستثناء سوريا ونيكاراغوا، وجاء في إعلان الانسحاب أنّ بلاده: "ستتوقف بداية من اليوم عن تنفيذ بنود اتفاقية باريس غير الملزمة، وما تفرضه من أعباء مالية واقتصادية على بلادنا"،وقال ترامب في إعلانه هذا: "إن الاتفاقية تضر بالولايات المتحدة، وإنه على استعداد لإعادة النظر في الأمر وفق شروط والتزامات مختلفة"،وقال بأنّ الاتفاقية: "تعاقب الولايات المتحدة وتكلفها ملايين فرص العمل"، وأضاف: "لقد انتُخبت لأُمَثّل سكان مدينة بيتسبيرغ (مدينة أمريكية) لا سكان باريس"، وادّعى ترامب أنّ: "الاتفاقية ستكلف الولايات المتحدة خسارة ثلاثة تريليونات دولار من إجمالي ناتجها القومي، و6.5 مليون وظيفة، بينما تُعامل منافسيها الاقتصاديين من أمثال الصين والهند بمحاباة".
وأبدى ترامب استعداده لمناقشة اتفاقية جديدة بدلاً منها، وقال البيت الأبيض في بيان له: "إن ترامب فسّر لميركل وماكرون وماي ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو في اتصالات هاتفية قراره الانسحاب من الاتفاقية"، وأنّه طمأن هؤلاء الزعماء بأنّ أمريكا "ما زالت ملتزمة بالتحالف عبر الأطلسي وبالجهود القوية لحماية البيئة".
وكان ترامب قد تعهد أثناء حملته الانتخابية العام الماضي بأن يتخذ خطوات تهدف إلى مساعدة صناعتي الفحم والنفط في بلاده، ونعت الاتفاقية في حينه بأنّها خدعة، ورأت شركات الفحم أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاقية يصب في صالحها، وأيّد زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل القرار، بينما وصف زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر القرار بأنّه "إحدى أسوأ خطوات رسم السياسة التي اتخذت في القرن الواحد والعشرين، بسبب ضرره الهائل على اقتصادنا وبيئتنا وموقفنا الجيوسياسي"،كما رفض قرار الانسحاب من الاتفاقية قطاع المال والأعمال الأمريكييْن، وندّد به مدراء شركات عالمية مثل غوغل وأبل وفيسبوك وجنرال إلكتريك وغولدمان ساكس ووالت ديزني، وكذلك رفضته الشركات النفطية الكبرى كإكسون موبيل وشيفرون، ومئات الشركات الأخرى التي حثّت ترامب على الالتزامبالاتفاقية، وحاولت الكثير من تلك الشركات الضغط على الإدارة الأمريكية لعدم الانسحاب من الاتفاقية، ورفضت القرار أيضاً بلديات أمريكية كبرى ومنها كاليفورنيا كبرى الولايات الأمريكية، وتعهد رؤساؤها بالالتزام ببنود الاتفاقية وعدم مخالفتها.
وتنص اتفاقية باريس للمناخ على الاحتفاظ بدرجات حرارة الأرض بمستوى أقل بكثير من مستوى 2 درجة مئوية فوق المستوى الذي كانت عليه في أزمنة ما قبل الصناعة، والسعي لتقليلها إلى مستوى 1.5 درجة مئوية في المستقبل، وتدعو إلى تقليل كمية الغازات الدفيئة المنبعثة من نشاطات الإنسان، وتؤكد على مراجعة مساهمة كل دولة في تقليل انبعاث الغازات كل خمس سنوات بما يسمح بقياس حجم مواجهة تحدي التغير المناخي، وتُطالب الدول الغنية بتقديم مساعدات للدول الفقيرة، وبتزويدها بتمويلات لتمكينها من التأقلم مع التغير المناخي، والانتقال إلى مصادر طاقة متجددة.
وتُعتبر أمريكا ثاني أكبر دولة في العالم بعد الصين مسؤولة عن تلويث البيئة، فهي مسؤولة عن 15 في المئة من مجموع الانبعاثات الكربونية عالميا.
وجاءت ردّات فعل الأوروبيين قوية وسريعة وغاضبة على انسحاب أمريكا من الاتفاقية، ففي بيان مشترك عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء الإيطالي باولو جنتيلوني عن الأسف لقرار أمريكا الانسحاب من اتفاق باريس، وشدّدوا في الوقت ذاته على عدم إمكانية إعادة التفاوض على الاتفاق كما طالب ترامب، وقال المفوض الأوروبي لشؤون المناخ ميغيل أرياس كانيتي إنه "لا يمكن إعادة التفاوض على اتفاقية باريس للمناخ مثلما قال الرئيس الأمريكي"، وأضاف: "إن العالم يمكنه أن يواصل التعويل على أوروبا لقيادة التصدي للاحتباس الحراري"، وأبدى أسفه الكبير لـ"قرار إدارة ترامب الأحادي"، وندّد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بقرار ترامب الانسحاب، واعتبره "قرارا خاطئا إلى حد خطير"، ووصف الرئيس الفرنسي ماكرون القرار بأنّه "خطأ حقيقي بحق الولايات المتحدة وكوكبنا معا".
وأجرت رئيسة الوزراء تيريزا ماي اتصالا تليفونياً بالرئيس الأمريكي وعبّرت له عن خيبة أملها لقراره، وأما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فتجنب انتقاد ترامب لقراره بالانسحاب من الاتفاقية، ورفض الحكم عليه بسبب هذا القرار، ودعا إلى عمل مشترك معه من أجل التوصل إلى اتفاق، وأمّا الصين فأكّدت التزامها باتفاقية باريس، وأصدرت بيانا مشتركا مع الاتحاد الأوروبي تعهدت فيه بتكثيف التعاون في سبيل خفض كمية الانبعاثات الكربونية.
إنّ انسحاب إدارة ترامب من أهم اتفاقية دولية تمّ توقيعها، والتوافق عليها، من قبل معظم دول العالم بقيادة الرئيس الأمريكي السايق أوباما، وبمشاركة جميع الدول الكبرى، يُعتبر بمثابة نكوص أمريكي فاضح تجاه ما يُسمّى بسلامة البيئة وأمن البشرية، بل هو تراجع لأمريكا غير مُبَرّر عن مسؤولياتها والتزاماتها، في مسألةٍ لطالما أصمّ بها الساسة والخبراء الأمريكان أنفسُهم آذانَ العالم وهم يُلحّون على ضرورة التوقيع على الاتفاقية لمدى أهميتها وخطورتها وضرورة الالتزام ببنودها.
وهكذا وبكل بساطة يأتي ترامب فيُبدّل ما قاله أسلافه، ويزعم بأنّ أمريكا تخسر التريليونات بسبب الاتفاقية، وأنّه يجب تعديلها، فإدارته رجّحت جانب الأرباح المادية على حساب البيئة، لأنّها تنطلق من قاعدة الربح والخسارة في كل سياساتها، ولا يُضيرها خروجها على الإجماع الدولي، كما أنّها لم تلتفت إلى الانقسام الداخلي لديها بسبب هذا القرار، فهي لم تأبه لا بتوتير الأجواء الدولية، ولا بالتهاب الأجواء الداخلية، طالما أنّ أمريكا لن تتكلّف بأي إنفاق لا يعود عليها بالربح، فهذه إدارة تُفكّر بعقلية التاجر وليس بعقلية السياسي.
إنّ انسحاب أمريكا هذا وإنْ كان سيُوفّر لها المزيد من الأموال، ولكنّه بالمُقابل سيزعزع مكانتها الدولية، وسيُتيح الفرصة لقوى دولية أخرى للتقدم لقيادة العالم بدلاً منها.
صحيح أنّه لا يوجد في عالم اليوم من القوى الدولية من يملك القدرة على الحلول مكان أمريكا، لكنّ تكرار مثل هذه القرارات غير الحكيمة التي تصدر عن إدارة ترامب سيزيد من عُزلتها، وسيوجد الفرصة الخصبة لتكتيل القوى الدولية ضد أمريكا، وسيُضْعف من قبضة الإدارة الأمريكية على الشؤون الدولية، وسيهيئ لقدوم القوة الدولية الإسلامية بإذنه تعالى، ويُمكّنها من الصعود سريعاً، لتتبوأ مكانها اللائق بها في قيادة العالم.
رأيك في الموضوع