- منذ الكشف عن تفاصيل اتفاق أستانة الأخير، والجهر بنية "الدول الضامنة" الفصل بين فصائل الثورة وبين قوات النظام، لتثبيت وقف إطلاق النار بشكل فعلي، أصبحت قضية احتمال دخول الجيش التركي إلى ريف حلب الغربي وإدلب من أهم القضايا المتداولة محلياً... فهل تنوي تركيا حقاً الدخول بقواتها إلى الشمال المحرر؟ وما إرهاصات هذا الدخول؟ وما أهدافه إن تمّ، وما مبرراته؟ وهل تعتبر تركيا تابعة لأمريكا في سياستها الخارجية تبعية عمياء أم أنها تدور في فلكها فقط؟ وما عواقب ذلك التدخل إن حصل على صعيد الشمال السوري والداخل التركي؟ هذا ما سنُجري فيه القلم بحثاً مختصراً فيما يلي من السطور:
- فبدايةً نقول: إن كلّ الأحداث المحيطة بهذه القضية تشير إلى نية تركيا فعلاً القيام بهذا الدور الخطير، وهو السيطرة الفعلية على كل تفاصيل الحياة في الشمال الغربي المحرَّر من سوريا، وإنهاء الحالة الثورية فيها، ثم إعادتها إلى بيت الطاعة الأمريكي وسيطرة النظام، بعد أن صار لها خارجةً عنه وعليه عدداً من السنين. وذلك بعد فشل النظام المجرم ثم إيران وروسيا في القيام بهذه المهمة عسكرياً، وعدم كفاية الدول التي مثلت خداعاً دور الداعم للثورة السورية كتركيا والسعودية، وقامت بربط قادة فصائل الثورة بها عبر الدعم المسموم، وأرغمتهم بسببه على الانصياع لقراراتها، وأدخلتهم في دوامة الهدن ومتاهة المفاوضات، وساقتهم سوقاً إلى التخلي عمليا عن فكرة إسقاط النظام، والقبول به شريكا سياسيا في المرحلة المقبلة.
- إلا أن الاحتمال الوارد لعودة عددٍ لا بأس به من هذه الفصائل عن هذا الخطّ المستهجن والممقوت شعبيا تحت تأثير ضغط الرأي العام المضادّ له، مما يمكنه حينها أن يقلب الطاولة على جميع المتآمرين، إن هذا الاحتمال الوارد جعل من الضروري بالنسبة لأمريكا أن تطلب من تركيا الدخول بقواتهم إلى المنطقة، التي تتصور أنهم سيكونون مقبولين شعبيا فيها، بحجة الفصل بين الفصائل وقوات النظام بداية، وهو ما يعني عمليا القضاء على فكرة إسقاط النظام، ثم تقوم هذه القوات في مرحلة تالية بترتيب أوراق الداخل المحرر كما تشتهي أمريكا، بتحجيم دور الفصائل عموما، ثم التخلص من كل فصيلٍ معارض للحل السياسي الأمريكي بحجة محاربة (الإرهاب)، ودفع الفصائل الباقية المرضي عنها إلى الاندماج مع جيش النظام وتحت إمرة أجهزة أمنه، لحماية الحكومة المشتركة التي ستتشكل حينها من أزلام النظام نفسه، مطعَّمة ببعض المعارضين العلمانيين المحسوبين زوراً على الثورة.
- وهذه لعبة خطيرة تراهن فيها أمريكا على إيقاع أهل الشام في حرج كبير، وهو أن تخيرهم بين شيئين أحلاهما مر: فإما تسليم ثورتهم وجميع مكتسباتها إلى أعدائها، وتضييع ما حققته من نتائج وما قدمته من تضحيات، وإما النظر إلى الجيش التركي (المسلم) كقوة محتلة غازية لا دواء لها إلا الرصاص!
- وفعلاً وفي وقت تتوالى فيه اجتماعات الدول الضامنة الثلاث، تركيا وروسيا وإيران، لوضع الخرائط التي تحدد مناطق وقف الاشتباكات، فقد بدأنا نشهد في الشمال الغربي نذر هذا التدخل التركي، وتهيئة المبررات العديدة له... فمن نشر الإشاعات الكاذبة بنيّة أكراد عفرين السيطرة على جبل سمعان بمساندة الروس، من أجل تبرير دخول تركيا بحجة الدفاع عن المنطقة في وجههم... إلى تواتر الأخبار عن حشود من القوات التركية قرب قرية أطمة الحدودية، مرورا بإطلاق الفقاعات الإعلامية، كإصدار والي هاتاي أمرا إلى القوات التركية بالاستعداد للدخول خلال أيام قليلة ثم تكذيب الخبر جملةً، جساً لنبض الرأي العام حيال هذه الخطوة، وتمييز المرحِّب بها من الفصائل عن المعارض لها أو المستعدّ إزاءها للقتال، إضافة إلى شق صف كثير من الفصائل بناءً على اختلاف الموقف تجاهها.
- وهنا محور هذا الحديث، فهل تركيا جاهزة تماما لتنفيذ الأوامر الأمريكية بالتدخل العسكري المباشر في سوريا للإجهاز على الثورة، ومستعدة داخليا لتحمل تبعات هذه الخطوة الخطيرة؟ أم أن هناك أمورا معينة يجب على ساسة تركيا أخذها بعين الاعتبار؟
- فباعتبار الفرق بين الدولة العميلة "التابعة" للدولة الكبرى، وبين الدولة التي "تدور في فلكها"، وباعتبار أن تركيا لا تزال دولة غير تابعة لأمريكا تبعية عمياء، كما هي حال معظم الدول في بلادنا العربية والإسلامية، وإنما هي تدور في فلكها فقط منذ أن استطاعت أمريكا إيصال حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا وتثبيته، بعد أن كانت تدور قبل ذلك في الفلك البريطاني... أقول: بهذين الاعتبارين فإن أردوغان إذا أراد حقيقةً أن لا يتدخل في سوريا بعد طلب أمريكا منه ذلك فإنه يستطيع، لأن ارتباط تركيا بأمريكا هو ارتباط مصلحة، لا ارتباط تبعية، أي أن تركيا تبحث عن مصلحة نفسها، وتقوم بالأفعال التي تخدم بها أمريكا، لكن ترى فيها أنها تحقق منها مصلحتها أيضاً، أما الأفعال التي ستضر بمصالحها ضرراً مباشراً فلا شأن لها بها.
- ورغم أن أردوغان يعلم أنه لم يستطع الوصول إلى الحكم وتثبيت نفوذه في الداخل إلا بمساعدة أمريكا، ويرى حقيقةً أن مصيره مرتبط بأمريكا، التي أصبحت لها سيطرة كبيرة على الحكم والقضاء والاقتصاد والجيش والأجهزة الأمنية لديه، حتى بات خروج تركيا في أية جزئية عن السياسة الخارجية الأمريكية أمراً بالغ الصعوبة... أقول: رغم ذلك كله إلا أن قرار التدخل التركي في سوريا ومواجهة أهلها وبعض فصائلها عسكرياً لإنهاء الثورة، قد يكون له من العواقب السلبية على حكومة حزب العدالة والتنمية ما لا تستطيع تحمله.
- فالتدخل هنا ليس له من المبررات في الداخل التركي ما كان له شمالي حلب، حيث دخلت القوات التركية للفصل بين أكراد عفرين وبين أكراد الحسكة والقامشلي، حيث يقبع خطر قيام كيان كردي باتصالهما، وكذلك لإبعاد "خطر تنظيم الدولة" عن الحدود كما كانوا يزعمون... أما في ريف حلب الغربي وإدلب فلا وجود للأكراد ولا لتنظيم الدولة، مما سيعرض مصداقية أردوغان للخطر أمام شعبه إذا ما شعر شعبه للحظة أن رئيسه يرسل أبناءهم خارج البلاد ليقوموا بتنفيذ مهمات قتالية لمصلحة أمريكا.
- أما من ناحية أخرى فالأرض شمالي حلب كانت مهيأة لدخول تركيا، وكانت جميع الفصائل جاهزة لمعاونتهم والقتال تحت رايتهم، أما هنا فتختلف الحال، إذ بعد الاتفاق أصدرت "هيئة تحرير الشام" بيانا ناريا اعتبرت فيه مؤتمر أستانة خيانة للثورة السورية ولدماء أبنائها وتضحياتهم، وأشارت إلى "تحركات غير مسبوقة من بعض فلول الفصائل المفسدة" تستهدف الشريط الحدودي، موضحة أن هذه الفصائل "ارتضت قياداتها الولاء للمشاريع الدخيلة على ثورة أهل الشام وجهادهم، حيث يتجهز هؤلاء للانقضاض على ما تبقى من مناطق الثورة والجهاد انسجاما مع مقررات أستانة". وقد توعدت الهيئة هذه الفصائل بالحرب والقتال والحيلولة دون عودتهم، وشمل الكلام تلك الفصائل و"كل من يسمح لهم بالعمل تحت رايته"! وتلك إشارة واضحة إلى تركيا.
- ففي ظل انكشاف أهداف هذا العمل المرتقب هل يجرؤ أردوغان على التضحية بالتأييد الشعبي الذي أتى به إلى الحكم ولا زال يسنده؟ هل يجرؤ على تحمل نظرات شعبه له بعد رؤيتهم لمنظر أبنائهم عائدين من الشام محملين بالتوابيت وملفوفين بالعلم التركي؟ هل سيجرؤ حينها أردوغان على تحمّل مؤامرات فلول الإنجليز المتبقين في جيشه والذين سيطلون برؤوسهم ويصطادون في الماء العكر ويستأنفون الكيد والمكر له من جديد؟ بل هل سيجرؤ أردوغان على تحمل عودة من سيبقى من جنوده وضباطه على قيد الحياة محمّلين بفكرة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بعد الاحتكاك الذي سيحدث بينهم وبين أهل الشام الطيبين المخلصين، ومقتنعين أن قائدهم بعثهم إلى الشام لتحقيق مخططات أمريكا؟ خصوصا وأن في جيشه الكثير الكثير من أمثال البطل مولود ألتنتاش؟ هذا ما ستجيب عنه قادمات الأيام، وهو ما سيحدده وعي أهلنا في الشام وقدرتهم على تمييز العدو من الصديق.
بقلم: عبد الحميد عبد الحميد*
رأيك في الموضوع