إن الاستفتاء الدستوري الذي جرى يوم الأحد 16 نيسان 2017 في تركيا كان من أجل حزمة التغييرات التي تضم 18 بندًا. وتشمل الحزمة العديد من التعديلات من مثل إلغاء النظام البرلماني الساري حاليا والتحول إلى تطبيق النظام الرئاسي، وإلغاء منصب رئيس الوزراء ورفع عدد النواب في البرلمان من 550 إلى 600 نائب، وتغييرات في المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين. لكن الظاهر أن الموضوع الأصلي للاستفتاء هو شكل الحكم.
لمعرفة أهمية التغييرات المراد تحقيقها ينبغي التعرف أولا على هيكل نظام الحكم في تركيا. فالفصل بين السلطات هو أساسٌ في النظام الجمهوري الديمقراطي الذي يتبنى الأيديولوجية الرأسمالية. لذلك فإن السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية مستقلة من الناحية النظرية.
والجمهورية التركية عند تأسيسها على أنقاض الخلافة العثمانية؛ إنما تأسست في ظل الهاجس الدائم من خطر إسقاطها والعودة ذات يومٍ إلى نظام الخلافة من جديد؛ لأن الشعب التركي مسلم، يحمل حنيناً دائماً لنظام الإسلام والحكم بما أنزل الله. فإلى جانب الفصل بين السلطات الثلاث تم القبول بالجيش حامياً خفياً وعلنياً للنظام الجمهوري. والخطاب المشهور الذي وجهه مصطفى كمال إلى الشباب يبدأ بالجملة التالية: "يا شباب تركيا! إن الوظيفة الرئيسية لكم هي المحافظة على والدفاع عن الاستقلال التركي والجمهورية التركية إلى الأبد"، والمادة 35 من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة التركية تنص على أن: "وظيفة القوات المسلحة هي المحافظة على الجمهورية التركية التي تم تأسيسها وفقا لإرادة الشعب والدستور التركي وحمايتها". وهذه المادة تعرف بالمصدر القانوني للانقلابات العسكرية في تركيا، وتم تغييرها في تعديل عام 2013. كذلك فإن المادة 4 من الدستور تنص على أنه: "لا يمكن تغيير، بل ولا طرح فكرة تغيير الحكم الذي ينص على أن الجمهورية هي شكل الدولة كما في المادة الأولى في الدستور، وميزات الجمهورية كما في المادة 2، وأحكام المادة 3".
إن آلية تأسيس وتسيير الجمهورية ذات نظام رقابة شديدة، وقد تم تعزيزه باستمرار. فقام نظام المراقبة القوي على عدد من المؤسسات والمجالس كالمحكمة الدستورية، ومجلس الأمن القومي، والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، والمجلس الأعلى للانتخابات، ومجلس الرقابة الحكومي. وذلك لأن مؤسسي النظام كانوا على علمٍ بأن أغلب الأحزاب في الحكم ستكون أحزاباً محافظةً وسيكون من الصعب جداً حصول الأحزاب القومية العلمانية الكمالية على الحكم بأصوات الشعب لأن الشعب مسلم. لهذا السبب كان تاريخ الجمهورية التركية يحمل باستمرارٍ ثنائية الحكم يمثل قطبيها سلطة عسكرية وأخرى مدنية. فلطالما كانت السلطة المدنية التي انتخبها الشعب تتعرض لضغوط السلطة العسكرية، وقام الجيش بتدخلات عسكرية وانقلابات عند الحاجة.
بعد خروج أمريكا من قوقعتها بعد الحرب العالمية الثانية سعت جاهدة لسنوات طويلة من أجل السيطرة على تركيا. حيث قدمت تطورات مختلفة لتحويل النظام الذي أسسه الإنجليز إلى صالحها هي، فكان من أهم ما قدمته سلطة أوزال التي تركت بصمتها على حقبة الثمانينات، وكذلك اقتراح "النظام الرئاسي". فعندما قدم أوزال هذا الاقتراح لم يتمكن من القيام بأية خطواتٍ ملموسة. وكذلك من خلفه من بعد بحث هذه المسألة دون الحصول على أي نتيجة ملموسة.
وعلى نفس المنوال قامت حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان الحاصل على الحكم عام 2002 بطرح هذا الاقتراح للمرة الأولى عام 2005، على شكل ضرورة إجراء تعديلات على دستور 1980 المعروف بدستور الانقلاب، وباشر خبراء الدستور في حزب العدالة والتنمية تحت إشراف الأستاذ الدكتور برهان قوزو بالتحضير لدستور جديد. لكن عملية الدستور الجديد تأجلت بسبب التحقيقات والدعاوى التي تناولت محاولات الانقلاب التي فتحت في وجه الكيان الإنجليزي في الجيش. وبعد انتهاء هذه الفترة انفجرت مسألة أتباع غولان فأطلقت الحكومة هذه المرة عملية واسعة لمكافحة أتباع فتح الله غولان. وقام تنظيما الدولة وحزب العمال الكردستاني خلالها بتكثيف نشاطاتهما في تركيا مما خلق جواً من عدم الاستقرار والقلق الأمني في تركيا، وقد ظهر ذلك عندما خسر حزب العدالة والتنمية بشكلٍ واضحٍ تفرده بالسلطة للمرة الأولى في انتخابات حزيران 2015.
استعاد حزب العدالة والتنمية قوته من جديد في الانتخابات التي جرت بعد أربعة أشهر في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، لكنها لم تكن كافية لتسجيل التقدم المرغوب. وحمَّل أردوغان مسؤولية الوضع السيئ لرئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، وطلب منه الاستقالة وعين مكانه بن علي يلدريم. كما قام أردوغان بتكليف يلدريم المقرب إليه إلى حدٍّ بعيدٍ بالتحضير للدستور الجديد والقضاء على نقاط الضعف، وما لبثت أن وقعت محاولة الانقلاب العسكري في تموز 2016 التي قلبت كل الموازين، فأطلقت الحكومة صفارات الإنذار وبدأت بتطبيق إجراءات أمنية مشددة، وأطلقت حملات اعتقال وتحقيق مكثفة ضد كل من تراه معارضاً لها وعلى رأسهم أنصار فتح الله غولان.
غير أن أردوغان الذي قام باستغلال الصلاحيات والإمكانات التي أتاحتها له ظروف الوضع الطارئ إلى أعلى درجة، بدأ بتطبيق النظام الرئاسي على أرض الواقع بالتدخل المباشر بالحكومة. فالتحقيقات والعمليات والتعديلات الدستورية السابقة كانت قد نجحت في الضغط على الجيش. وفي النهاية تم عرض حزمة الدستور التي تضم 18 بندا على المجلس للتصويت وبدأت عملية الاستفتاء للحصول على شرعية دستورية لهذا التعديل.
ورغم الأهمية التي تحملها كل مادة معروضة للاستفتاء؛ فإن الغاية الأصلية هي تغيير النظام الوزاري البرلماني إلى الرئاسي. وفقا لذلك يشكل رئيس الجمهورية الحكومة ويديرها بنفسه، ويلغى منصب رئيس الوزراء. ويتراجع احتمال وصول العقلية الإنجليزية المتمثلة بالعلمانية الكمالية إلى السلطة إلى الصفر؛ لأن رئيس الجمهورية يجري انتخابه من الشعب مباشرة لا بناء على التوافقات البرلمانية، ومن المستحيل أن تتعدى نسبة العلمانية الكمالية المعارضة 50% من الشعب. وبذلك تكون أمريكا قد حصدت نصراً كبيراً من الناحية السياسية في صراعها مع الإنجليز بفضل حكومة حزب العدالة والتنمية الموالية لها.
ويعزى سبب الأعمال الإرهابية التي ارتفعت حدتها في الآونة الأخيرة إلى المعارضة الشديدة لحزب الشعب الجمهوري واتخاذ حزب الحركة القومية مكانه إلى جانب الحكومة مهما كلف الأمر. لكن المعارضة أدركت أن سياساتها السابقة لا فائدة منها، ولهذا تقدمت هذه المرة بخطوات واثقة وقوية وحذرة ضد مشروع تعديل الدستور، وفي المقابل تقوم الحكومة بحشد جميع الإمكانات التي تملكها من أجل التعديل.
ولا أهمية لنتيجة الاستفتاء أياً كانت من منظور الإسلام والمسلمين، فالنظامان وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يتناقضان مع الحكم بما أنزل الله ونظام الخلافة، والاستفتاء بالتالي ليس استفتاء المسلمين، والخيار الذي يترتب عليه ليس خيار المسلمين، ولا يعدو كونه فخّاً منصوباً للإسلام والمسلمين في إطار الصراع الحضاري، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، وعندما يأذن الله بتمكين العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية، بإقامة الخلافة على منهاج النبوة، يكون التغيير الحقيقي الذي يحن إليه المسلمون، ويعمل من أجله العاملون، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: يوسف أبو أسيد
رأيك في الموضوع