هل من رابط بين توقيع اتفاقية إنشاء مركز الخدمات المالية الصيني في قلب لندن على مساحة 70000 متر مربع، وموافقة الحكومة البريطانية على تشييد مفاعل نووي صيني في محافظة إيسيكس البريطانية بتمويل صيني، وبين انتخاب ترامب رئيسا لأمريكا؟
وكيف نفسر الفوز المفاجئ لترامب الذي صدم كثيرا من القادة الأوروبيين الذين كانوا يتطلعون لاستمرار التعامل مع هيلاري كلينتون التي خبروها جيدا عبر سنوات من التعامل معها؟
وهل فعلا سيطبق ترامب الوعود الانتخابية الساخنة والمثيرة للجدل التي أطلقها في حملته الانتخابية، أم أنها كانت بالونات انتخابية انتهى مفعولها بنجاحه في الانتخابات؟ فقد سبق له أن وعد ببناء جدار على الحدود مع المكسيك تتحمل كلفته المكسيك، ولكنه تراجع عن تصريحه هذا. وحتى تهديده بسجن هيلاري كلينتون بسبب فضيحة تسريب البريد الإلكتروني لها خلال عملها في الخارجية الأمريكية، تبين أنه فقاعة انتخابية أخرى ليس أكثر!
فلماذا إذن حذر فرنسيس فوكوياما في مقال نشرته صحيفة "ذي فاينانشال تايمز"، بالقول "تشكل الهزيمة الانتخابية المذهلة التي ألحقها دونالد ترامب بمنافسته هيلاري كلينتون نقطة تحول مفصلية، ليس فقط بالنسبة للسياسة الأمريكية بل وللنظام العالمي بأسره". وتابع فوكوياما أن "رئاسة ترامب للولايات المتحدة الأمريكية تدشن عصرا جديدا من القومية الشعبوية، يتعرض فيها النظام الليبرالي الذي أخذ في التشكل منذ خمسينات القرن العشرين للهجوم من قبل الأغلبيات الديمقراطية الغاضبة والمفعمة بالطاقة والحيوية". وحذر من "خطورة الانزلاق نحو عالم من القوميات المتنافسة والغاضبة في الوقت نفسه، وإذا ما حدث ذلك فإننا بصدد لحظة تاريخية حاسمة مثل لحظة سقوط جدار برلين في عام 1989". وقد نشر الكاتب البريطاني ديفيد هيرست تحذيرا مماثلا في مقاله في (ميدل إيست أي) معللا انتخاب ترامب بفشل سياسات العولمة الليبرالية: "أياً كان ما فعله أوباما، سواء فيما يتعلق بالرعاية الصحية أو بإنقاذ ديترويت، فقد استمر في تنفيذ نفس المشروع. لقد تبادلت الأحزاب الوسطية في بريطانيا وأمريكا نفس الأدوات وكذلك نفس الناس ونفس السياسات، مثل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإصلاح التعليم، وإلغاء الرقابة على البنوك وعندما انهارت تم تأميم الخسائر التي منيت بها. وجراء القيام بذلك ولدت هذه الأحزاب قوى في غاية العنفوان داخل المجتمع عاقدة العزم على تدميره - من لم تتم إعادة تعليمهم، والعمال الذين أعلن أن مهاراتهم لم يعد مرغوباً فيها، والعاطلون عن العمل، والعاجزون عن الحركة اجتماعياً، وكبار السن، والبيض، والمنسيون. في نهاية المطاف، كل ما احتاجت إليه جميع هذه القوى هو شرارة تشعل المصباح وتسلط اللهب الأزرق لغضبهم على المستهدف. في حالة بريكسيت (المبادرة البريطانية المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي) كان المستهدف هم البولنديين. وفي حالة ترامب، كان المستهدف هم المكسيكيين والمسلمين".
واقع الأمر، كما قال أحدهم، إنك عندما تصل إلى قمة الجبل فإن كل الدروب تهوي بك إلى الأسفل. فهذا هو واقع أمريكا اليوم، لقد تربعت على قمة النظام الدولي عقوداً تفردت فيها بالمسرح الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ولكن سياسات العولمة التي أطلقها الرأسماليون الأمريكان ليبيحوا لأنفسهم نهب ثروات العالم، وبناء امبراطورياتهم المالية على حساب دماء وأشلاء الشعوب المسحوقة، التي اكتوت بنار السياسات المالية والاقتصادية المفروضة عليهم من قبل واشنطن وعصابتها، هذه السياسات نفسها أدت، مع مرور الزمن، إلى نتائج أصابت رجل الشارع في أمريكا، كشأن صاحبه في بريطانيا، بوجع البطالة، وانهيار الخدمات الصحية والاجتماعية، فازداد الفقراء فقراً، بينما ازداد الأغنياء غنى. وكل شيء له حدود: فانهيار عوامل القوة الذاتية في الداخل الأمريكي رافقه خلل في الميزان الدولي وصعود قوى جديدة منافسة من أهمها الصين التي قفزت قفزات نوعية في تمتين اقتصادها وبناء قوتها العسكرية، بل وبناء شبكة دولية من النفوذ الاقتصادي الإقليمي والدولي في آسيا كما في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وصولا إلى قلب أوروبا، ففي 1 تشرين الأول 2016 ضم صندوق النقد الدولي اليوان، العملة الصينية، إلى سلة العملات التي تتألف منها حقوق السحب الخاصة (SDR) إلى جانب العملات الأربع المدرجة من قبل - وهي الدولار الأمريكي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني.
من هنا فإن ترامب في حملته الانتخابية دغدغ مشاعر الطبقة الشعبية المسحوقة في أمريكا متبنيا خطابا ديماغوجيا شعبويا، واعدا إياهم بإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء حين كان الاقتصاد الأمريكي يعتمد على ثرواته الداخلية وقوة صناعاته المحلية وليس على صناعات نقلتها العولمة والسياسة الليبرالية إلى ما وراء الحدود.
ولكن هل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ هل ينجح ترامب، وقوى "الدولة العميقة" التي أتت به في مسعاه هذا؟ أغلب الظن أنه فات الأوان لعكس نتائج السياسات التي اتبعت منذ عقود. فالواقع الدولي المتشابك أكثر تعقيدا من أن يتمكن حاكم البيت الأبيض، سواء ترامب أو غيره، من فرض إملاءاته على عواصم العالم وبالأخص الدول الطامحة إلى موقع لها تحت الشمس على المسرح الدولي وأولها الصين. وقد وجدنا وزير المالية البريطاني فيليب هاموند، الذي كان من قبل وزير الدفاع في حكومة كاميرون، في خطابه أمام نائب رئيس الوزراء الصيني (ما كاي) والذي وعد فيه بنقل العلاقات التجارية بين الصين وبريطانيا إلى العهد الذهبي، وجدناه يحذر ترامب، الذي سبق أن هدد بفرض ضرائب تصل إلى 45% على البضائع والسلع الصينية، من مغبة شن حرب تجارية ضد الصين. (صحيفة الدايلي ميل البريطانية 10/11/2016).
نعم لقد نخر سوس النظام الرأسمالي الفاسد في جذوره واتسع الخرق على الراتق، فلم يعد بإمكان ترامب ولا غيره ترقيع عورات العرش الأمريكي، ومن المتوقع أن تؤدي سياساته القادمة إلى مزيد من التخبط داخليا. أما خارجيا فمن المتوقع أن يشجع فوز ترامب وشعاراته المتطرفة تعاظم نمو التيار اليميني المتطرف في أوروبا ووصول بعض قياداته إلى مراكز متقدمة في الدول سواء في النمسا أو هولندا أو فرنسا... وكل هؤلاء سيجدّفون عبثا في وجه تيار الانحدار الهائل الذي يمهد للسقوط المدوي للحضارة المادية الرأسمالية التي قامت على عبادة المادة، والكفر برب الكون سبحانه. نعم قد يعمد قادة الغرب إلى آخر الدواء، وهو الكي بنيران حرب عالمية لا تبقي ولا تذر، تماما كما صنع أسلافهم للخروج من أزمة الكساد الكبير سنة 1929م، ولكن هذا لا يعني أكثر من تأخير موعد دفن هذه الحضارة النتنة التي ضج منها البشر والحجر بل والسماء التي أشبعها جشعهم المادي تلوثا.
وما من منقذ للبشرية غير الإسلام ورحمته وعدله، فيا ليت قومي يعلمون!
رأيك في الموضوع