التأم مؤتمر لندن حول ليبيا في الأول من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2016 في مقر وزارة الخارجية وبحضور وزير خارجية بريطانيا "بوريس جونسون" ونظيره الأمريكي جون كيري مع تمثيل فرنسي وإيطالي وسعودي وإماراتي، وكان اللافت للنظر هو غياباً معتبراً لروسيا والصين والبلدان المجاورة لليبيا، ونعني مصر والجزائر وتونس... وما زاد هذا المؤتمر غموضا هو حضور الأمين العام للناتو، أما عن الجانب الليبي فكان التمثيل من حكومة الوفاق الوطني ممثلة في رئيسها فايز السراج ومحافظ مصرف ليبيا المنتهية ولايته ورئيس ديوان المحاسبة.
ولم يكن المؤتمر من مخرجات اتفاق الصخيرات ولا سياقه وهو اتفاق ترتبت عنه حكومة مفروضة وهزيلة غير مكتملة وغير مقبولة من عموم أهل ليبيا ولا شوكة لها على الأرض، فالجميع يعلم أن فايز السراج بعد سيطرة المؤتمر الوطني على مقر الرئاسة في طرابلس منذ أسبوعين ومنذ سيطرة خليفة حفتر على الهلال النفطي لم يعد له إلا القاعدة البحرية (بوستة)، وهي القاعدة التي يقيم فيها ويلوذ بها. والسؤال: أي تمثيل لهذه الحكومة حتى تذهب للندن لتقرر المصير الاقتصادي لليبيا؟ وما الذي جعل الكثيرين يصفون هذا المؤتمر بالغموض والمؤامرة؟ والجواب أن الحكومة حين كانت بلا وجاهة وبلا فاعلية ميدانية وسياسية ولم تجد القبول والحضانة دخلت وفق ترتيب خارجي من الباب الخلفي من خلال هذا المؤتمر بدعوى الإنقاذ الاقتصادي والمالي الضروري والعاجل. لتستميل الناس من جانب معاشهم وأرزاقهم. أما غاية بريطانيا ومن معها فهي استغلال هشاشة الوضع وتناقضه لتحقيق اختراق اقتصادي هائل يجر ليبيا إلى الارتهان الدائم للسوق المالية الدولية، والدليل على ذلك ما كشفته وسائل إعلام ليبية من أن المجتمعين توصلوا إلى اتفاق يقضي بتشكيل جسم جديد يختص بشؤون تسييل الأموال تحت اسم (المجلس الأعلى للإنفاق) وهو مجلس بصلاحيات واسعة رغم أنه خارج اتفاق الصخيرات ودون نظر برلمان طبرق وهو الركيزة الشكلية لشرعنة حكومة السراج... ومن باب أولى هو دون رضا ولا استشارة الثوار والمؤتمر الوطني... أي أن الأمر هو من قبيل الإسقاط والاختراق وفرض الأمر الواقع أن القطراني نائب رئيس المجلس الرئاسي في حكومة السراج نفسها اعتبر هذا المؤتمر اجتماعا مشبوها الغاية منه السيطرة على اقتصاد ليبيا وتوريطها في قروض دولية بضمان من احتياطياتها وأرصدتها المجمدة وحتى إيراداتها النفطية المستقبلية، ومثل هذا المعنى أكده مدير مكتب الإعلام والعلاقات الخارجية الدولية في المؤسسة الليبية للاستثمار إذ اعتبر هذا المؤتمر يمس بأمن البلاد وسيادته...
إذا كان الأمر بهذه الخطورة وهذه الوقاحة فلماذا استسهلت حكومة السراج وبعض الملحقين بها ومن لا صفة لهم حضور المؤتمر والموافقة على قراراته؟
الجواب أن الحكومة التي جاء بها اتفاق الصخيرات الذي كان برعاية غربية أممية كان الغرض منها (ولا سيما عند أمريكا) أن تكون حجة وغطاء يضفي الشرعية على أي تدخل أو عدوان أو هيمنة إذ يكفي إمضاء هذه الحكومة أو تصريح رئيسها ليصبح الاختراق والعدوان "شرعيا" مبررا وله غطاء دولي ومبرر قانوني، ويذكر الجميع كيف أن أمريكا صرحت أكثر من مرة، حتى أثناء التهيئة لحكومة الوفاق الوطني (السراج): "إذا طلبت منا الحكومة التدخل فسنفعل"، وهو ما حدث فعلا فيما بعد حين قال فايز السراج أن الغارات الجوية الأمريكية في سرت جاءت بطلب من حكومته؛ ما أثار أهل ليبيا وكان الرأي السائد أن ما بني على باطل فهو باطل... وهذه الحكومة لا شرعية لها ولا تفويض وخرجت مظاهرات كاسحة ضد العدوان وضد الحكومة على حد سواء، وكان موقف دار الإفتاء صريحا في حرمة هذا العمل وإثم من يبرره أو يشارك فيه... ما عزل هذه الحكومة أكثر فأكثر عن سياق الثورة وأكد أنها دخيلة ومفروضة.
واليوم يراد شرعنة العدوان الاقتصادي على ليبيا بجعلها مدينة وتحت نفوذ الدول والهيئات المقرضة، والمبرر دوما هو قبول أو مشاركة حكومة السراج العميلة التي لا تملك أمرها.
صار واضحا اليوم أكثر فأكثر أن الاستعمار يطرق على ليبيا كل أبوابها ويسعى لفرض الأمر الواقع بغلاف دولي، أي تدويل "الملف الليبي والثورة"، فليبيا بلد ثري غاية الثراء واحتياطي النفط فيه هائل وموقعه استراتيجي بين الشرق الإسلامي وغربه... وهو الآن محل مناورة وتجاذب بين سياسة أمريكا الهوجاء التي تريد السيطرة على شمال إفريقيا من خلال ليبيا أو الجزائر وبين سياسة بريطانيا الخبيثة التي تملك مجمل الوسط السياسي وتساير مشاريع أمريكا لتخبطها وبين فرنسا الطامعة وإيطاليا بدرجة أقل...
إنّ موقف الناس من حكومة السراج ومن العدوان الأمريكي مهما كان مبرره ومن مؤتمر لندن الاقتصادي حول ليبيا ليؤكد درجة من الفطنة والوعي ولكن الثغرة الكبرى هي شهوة الحكم وفتنته حين غيب البديل المبدئي، أي الإسلام بما فيه من كفاحية عالية باتجاه الدولة الإسلامية، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، البديل الاستراتيجي لليبيا والأمة جمعاء.
بقلم: الأستاذ رضا بالحاج
رأيك في الموضوع