إنه لمن المستحسن أن نلقي نظرة على الأزمة الكورية؛ فبعدما دخلت أمريكا الحرب العالمية الثانية وبعدها قررت الخروج من عزلتها ودخول العالم القديم وبدأت تتدخل فيما وراء الهادي والأطلسي لتقود العالم الغربي بعد أن أكل بعضه بعضا في الحرب وتحطم قوى دوله الكبرى كبريطانيا وفرنسا حاملتي لواء المبدأ الرأسمالي وكانتا تسيطران على أغلب مناطق العالم، فخافت أمريكا من تقلص النفوذ الغربي واجتياح الشيوعية العالم ومنه الغربي لتصل إلى أمريكا ذاتها، حيث ظهرت الصين بجانب الاتحاد السوفياتي تحمل المبدأ الشيوعي وبدأت بمحاولات للسيطرة على منطقتها الإقليمية في بحري الصين الشرقي والجنوبي ومنها كوريا.
دخل الاتحاد السوفياتي الجزء الشمالي من كوريا عام 1945م حسب اتفاق مع أمريكا مقابل دخوله الحرب ضد اليابان التي كانت تحتل كوريا، حيث كانت أمريكا تجد صعوبة في التقدم نحو الشمال، وبقيت القوات الأمريكية في الجزء الجنوبي من كوريا. وقد تمرد الكوريون على الاحتلال الأمريكي، فقامت أمريكا مع النظام الذي أقامته هناك فسحقتهم وقتلت حوالي 100 ألف كوري كدأبها الديمقراطي لفرض الديمقراطية بالحديد والنار، ولجأت إلى حيلة إجراء انتخابات في كوريا كلها لخداع الناس ولإخراج الاتحاد السوفياتي من الشمال بعدما وضعت الحرب أوزراها ولم يعد حاجة لاستخدامه ولإبعاد الشيوعية عن كوريا وجعلها دولة ديمقراطية تابعة لها، ففهم الاتحاد السوفياتي خدعة إجراء الانتخابات فرفضها، عندئذ تخلت أمريكا عن اتفاقاتها معه حول كوريا.
عين الاتحاد السوفياتي كيم ايل سونغ رئيسا لكوريا الشمالية وهو جد الرئيس الحالي، وقد اشتعلت الحرب بين الكوريتين عام 1949م، فكلتاهما ومن ورائهما الأمريكان والسوفييت كلٌّ تطمح في اجتياح الأخرى، وأعلن الاتحاد السوفياتي دعمه لخطط كوريا الشمالية في توحيد كوريا، فاخترق جيشها يوم 25/6/1950م خط عرض 38 الذي رسم بين الكوريتين حسب الاتفاق الأمريكي السوفياتي حتى وصل عاصمة الجنوب سيول خلال ثلاثة أيام، فتفاجأت أمريكا فاستصدرت قرارا من مجلس الأمن رفضه الاتحاد السوفياتي بضرورة انسحاب الشمالية من الجنوبية وتدخلت أمريكا بدعوى تنفيذ القرار، وشكلت حلفا ضم الدول الغربية وأتباعها. وهكذا نشبت الحرب وانتهت عام 1953م وانتهت بخروج الشمالية من الجنوبية واستمرار التقسيم ولم توقع اتفاقية سلام. وكان للصين دور كبير في مساعدة كوريا الشمالية في الحرب، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي تقوت العلاقات بينهما.
وهكذا بقي الوضع، وحصل عام 1994م أن وقعت كوريا الشمالية على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية مقابل تعهدات بمساعدات أمريكية، وقد تشكلت اللجنة السداسية التي ضمت أمريكا وروسيا والصين واليابان والكوريتين، ولكن أمريكا لم تلتزم بتعهداتها على عهد بوش، فانسحبت كوريا الشمالية من المعاهدة عام 2003، واستأنفت برنامجها حتى تمكنت من إجراء تجاربها النووية منذ عام 2006 وتطوير منظومتها الصاروخية التي بدأت تهدد بها كوريا الجنوبية واليابان وجزيرة غوام الأمريكية. وبدأت أمريكا تستفز كوريا الشمالية بالمناورات التي تجريها سنويا مرتين بالقرب من حدودها. وقد ظهر أن ذلك يستهدف الصين بالدرجة الأولى التي تعمل على السيطرة على بحري الصين الشرقي والجنوبي. وقد أعلنت أمريكا عام 2014 عن نصب الدرع الصاروخي المحيط بالصين بذريعة مواجهة صواريخ كوريا الشمالية. وأخيرا أعلنت أمريكا نيتها نصب صواريخ "ثاد" الأكثر تطورا في العالم.
وقد بدأ الحديث عن ذلك منذ منتصف شهر شباط الماضي فاعترضت الصين وروسيا واعتبرتاه تهديدا لأمنهما.فعلقت الصين باسم المتحدث الرسمي لخارجيتها هونغ لي يوم 15/2/2016 "إننا نشعر بقلق بالغ إزاء احتمال نشر نظام ثاد الأمريكي في شبه الجزيرة الكورية حيث إن مدى هذا النظام أكبر بكثير من مجرد الضرورة الدفاعية في شبه الجزيرة الكورية ونحن لن نسمح بالإضرار بمصالح أمننا الوطني فضمان مصالحنا الأمنية أمر واجب... ستواصل الصين الدعوة إلى نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية وبذل الجهود من أجل حل تلك المشكلة من خلال المفاوضات والحوار" فأقصى ما تريد أن تفعله الصين هو المفاوضات!
وأعلن السفير الروسي لدى كوريا الجنوبية ألكسندر تيمونين يوم 30/6/2016 "الجانب الكوري الجنوبي والشركاء الأمريكيون يعرفون الموقف الروسي بشكل جيد والمتمثل بالرفض بشكل قاطع نشر منظومات ثاد المضادة للصواريخ في كوريا الجنوبية لأننا نعتبر ذلك يمثل تهديدا لأمن بلادنا... نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي يتم التخطيط لنشره تحت ذريعة الدفاع عن كوريا الجنوبية من تهديدات الصواريخ الكورية الشمالية... هذه الخطط تسبب لنا قلقا بالغا، لأن تنفيذها قد يكون له تأثير سلبي على الوضع العام في شمال شرق آسيا ونحن نعتقد أن نشر عناصر الدفاع الصاروخي في كوريا الجنوبية لن يساهم في تطبيع الوضع في المنطقة". فالرفض وإبداء القلق لا غير!
فلم تر أمريكا تهديدا فعّالا ورادعا من قبل هاتين الدولتين المعنيتين بالأمر، فواصلت خططها في نصب صواريخ "ثاد" فتم الاتفاق على ذلك بينها وبين كوريا الجنوبية يوم 8/7/2016، فصرح وزير خارجيتها كيري يوم 19/10/2016 أن "بلاده ستنشر منظومة الدفاع الصاروخي "ثاد" في كوريا الجنوبية قريبا... وأنها ستفعل كل ما هو ضروري للدفاع عن نفسها وعن حلفائها".
إن روسيا والصين لا تقومان بعمل فعّال ورادع ضد أمريكا، وطريق ردعها ليس مجرد الاحتجاج والرفض وإبداء القلق، وإنما بالأعمال التي تؤثر عليها بشكل جاد، وهو التهديد الفعّال لهيمنتها ومصالحها والتحرك الفعلي لحشد مختلف القوى ضدها. فتتحرك نحو مناطق نفوذها لتثير لها المشاكل، وتتصل بالدول التي تقع تحت نفوذها في محاولة جادة لأخذها منها، وكذلك تقطع التعاون معها في سوريا وتقديم الخدمات المجانية لها فتتوقف عن تنفيذ خططها، وتذهب نحو الدول الأوروبية فتتحرك معها ضد أمريكا، وتقوم بأعمال اقتصادية مثل التوقف عن التعامل بالدولار وفي تفعيل البنك الآسيوي، وغير ذلك كثير من الأعمال السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، وإثارة الرأي العام ضدها في قضايا داخلية ودولية. وتستغل انشغالها في القضية الأولى عالميا التي شيبت رئيسها أوباما وسببت الإحباط لوزير خارجيتها كيري.
إن أمريكا تستغل موضوع تهديدات كوريا الشمالية وتطويرها للأسلحة النووية والصاروخية لتمنع الصين من السيطرة على منطقتها الإقليمية ولتجعلها مشغولة فيها ولا تخرج منها وتنافس أمريكا في كل مكان على عادة الدولة الكبرى.فالدولة الكبرى هي التي تعمل على التأثير في السياسة الدولية، وتسعى لأن يكون لها تأثير في كل قضية دولية وفي كل مكان، وتسعى لإيجاد نفوذ لها في كل دولة، وتزاحم الدولة الأولى في العالم إن لم تكن هي الأولى، وبذلك تتمكن من تحقيق مصالحها وتحافظ على مكانتها الدولية. ويجب أن تقوم الدولة الكبرى بأعمال جادة وبتهديد فعّال لمزاحمة الدولة الأولى، وإلا لا تكون مزاحمتها منتجة. وهذا ما ستقوم به دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة من أول يوم بإذن الله وتحيل الدول الكبرى وخاصة الأولى إلى التقاعد وترجعها إلى ما وراء الهادي والأطلسي.
رأيك في الموضوع