باتت تصفية ثورة الشام هي القضية الدولية الأولى عالمياً التي تشغل صُنّاع القرار الدوليين والإقليميين في هذه الأيام، فلا حديث في وسائل الإعلام إلا عنها، ولا تحليلات ولا تعليقات يخوض فيها الخائضون إلا وأحداث الشام تتصدرها، فقد تربعت بجدارة على صدارة أولويات الساسة، واستغلتها القوى الدولية المتصارعة، وحاولت تعزيز مواقعها على حسابها، وتنابذت بسببها القوى الإقليمية التابعة، بينما سائر القضايا السياسية الساخنة الأخرى في العالم قد انسحبت من أمامها، فتنحّت جانباً قضايا دولية مهمة كقضايا بحر الصين الجنوبي، وتوترات شبه الجزيرة الكورية، واحتكاكات الهند وباكستان حول كشمير، وقضايا آسيا الوسطى، ومشاكل أمريكا اللاتينية وأفريقيا، ومسائل النفط والغاز والطاقة، وغيرها من القضايا والموضوعات السياسية والاقتصادية العالمية الشائكة، وأفسحت المجال لها.
ففي الأسبوع الأخير عُقدت سلسلة من الاجتماعات والمؤتمرات لبحث أحداث سوريا، فكانت اجتماعات الرياض يوم الخميس ١٣ تشرين الأول/أكتوبر والتي شاركت فيها السعودية وقطر وتركيا لبحث واعتماد المبادرة السعودية، وتوحيد رؤيتهم للحل السياسي للموضوع السوري، والذهاب إلى لوزان بموقف موحد، وتلتها قمة لوزان يوم السبت ١٥ تشرين الأول/أكتوبر الجاري والتي استبعدت منها بريطانيا وفرنسا، واستعيض عنهما بتركيا وإيران والسعودية وقطر ومصر والعراق والأردن، وخرج كيري منها بالقول إن الاجتماع كان متوتراً، وبرغم ذلك فقد تم طرح أفكار جديدة، ثم تبعها يوم الأحد ١٦ تشرين الأول/أكتوبر اجتماع كيري في لندن مع نظرائه البريطاني والفرنسي والألماني أطلعهم على نتائج قمة لوزان بشكلٍ تفصيلي، ثم أخيراً كان اجتماعه يوم الاثنين ١٧ تشرين الأول/أكتوبر مع وزراء الاتحاد الأوروبي لعرض الموضوع نفسه لكن بطريقة أكثر عمومية، وكانت نتائج كل هذه المؤتمرات والاجتماعات السياسية مجموعة أصفار لم تُفضِ إلى أي حل، ولم تُثمر عن أي شيء، وبقيت الأمور على ما هي عليه، فلا حراك ولا تغيير على الأرض، ولا إيقاف للقصف ولا حقن للدماء، ولا رفع للحصار، ولا إدخال للمساعدات، ولا بزوغ لأي أفق يتعلق بأي حل سياسي في سوريا.
ظهر من هذه الاجتماعات تكتيك أمريكي جديد، وهو إشراك القوى الإقليمية في مداولات المؤتمر، واستبعاد القوى الكبرى كبريطانيا وفرنسا منها، بحجة أن روسيا لا تريد إشراكهما في المؤتمر، وذلك لتطرف موقفيهما ضد روسيا، وإشراك هذه الدول الإقليمية إلى جانب روسيا وأمريكا يبعث برسالة مهمة إلى بريطانيا وفرنسا مفادها أنه لا مكان لكم في بحث هذه القضية، خاصة بعد أن ظهرت محاولات جدية في الأسابيع الماضية من فرنسا وبريطانيا لتصعيد الأجواء ضد روسيا.
وكان حضور الدول الإقليمية في مؤتمر لوزان شكلياً، فقد اجتمع أولا كيري ولافروف لوحدهما، وقرّرا نتيجة المؤتمر سلفاً، ثم بعد ذلك تم إدخال وفود الدول السبعة، وثبتت روسيا على موقفها المطالب بفصل مقاتلي جبهة فتح الشام عن سائر الفصائل الأخرى قبل إيقاف القصف، فيما طالبت أمريكا بوقف أو تخفيف قصف حلب، وإدخال المساعدات الإنسانية قبل الفصل بين المتقاتلين، ثم انفض الاجتماع بالقول إن هناك أفكارا جديدة تم طرحها سيتم نقاشها في جولات لاحقة.
إنّ ما جرى في لوزان هو نوع من رفع العتب بادّعاء أن أمريكا تُحاول وقف قصف روسيا والنظام السوري على المدنيين، ولكنها تتذرع بأنّ الخلافات مع روسيا أكبر من التوصل إلى تحقيق ذلك، والنتيجة أن أمريكا استخدمت الموقف الروسي الضاغط على أهالي حلب لتخييرهم بين أمرين لا ثالث لهما، فإما الخضوع والاستسلام وإما الإبادة والتدمير، وما يؤكد هذا الخيار موقف المبعوث الأممي دي ميستورا الذي جدّد عرض مقترحه القاضي بإخراج مقاتلي جبهة فتح الشام كشرط لإدخال المساعدات إلى الجزء الشرقي من حلب المحاصرة، وهذا هو عينه الموقف الأمريكي.
وهذا الأسلوب الأمريكي في دق الأسافين بين الثوار، وتقسيم المقاتلين بين متطرف ومعتدل، ليس بالأسلوب الجديد ولا المستغرب من دولة عدوة للأمة الإسلامية كأمريكا، يرمي في النهاية إذا تمت الاستجابة له لا سمح الله، إلى تصفية الثورة والقضاء عليها نهائياً، والحفاظ على نظام الطاغية بشار وإبقائه في أحسن حالاته.
إنّ أمريكا تستخدم روسيا كما تستخدم دول الإقليم وكل دول العالم في تحقيق هدفها الاستعماري الخبيث هذا، ألا وهو تصفية الثورة، والقضاء على تطلعات أهل سوريا في إقامة مشروعهم الإسلامي المُتمثل في إقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، والتخلص من كابوس الدولة العلمانية، الذي تُحاول أمريكا ومعها العالم كله إعادة فرضه على سوريا.
لقد باتت قضية الشام مسألة حياة أو موت بين الأمة الإسلامية من جهة، وبين قوى الكفر والطغيان من جهة أخرى، ولا مجال في هذه الحالة للرجوع عن الثورة إلا بتحقيق النصر، لأنها أصبحت ثورة أمة، وقضية مبدأ تتعلق بالتغيير الحقيقي، والصمود فيها صار مقدساً، والتمترس حول مشروع الأمة السياسي (دولة الخلافة على منهاج النبوة) أصبح غاية لا حيد عنها ولا انفصال.
بيْد أنّ أمريكا ومعها روسيا وجميع الدول التابعة والناعقة لن يكون بمقدورها كبح ثورة الشام، ووقف قوتها الجماهيرية مهما ارتكبت من مجازر، ومهما جمعت من مرتزقة، ومهما دمرت وهجّرت وبغت، فقوة الإسلام التي تمكنت من قلوب الشعوب الإسلامية في سوريا والمنطقة، هي من الصلابة بمكان، بحيث لا تقدر معها أمريكا وأوباشها وأتباعها من الوقوف أمامها، فهي قوة حقيقية ذاتية صاعدة ستجرف كل من يقف في طريقها من قوى العلمنة والكفر والطغيان بإذن الله.
رأيك في الموضوع