قامت أمريكا يومي 1 و2/8/2016 بتنفيذ ضربات جوية ضد مواقع لتنظيم الدولة في سرت بطلب من حكومة الوفاق الوطني الليبية. فأعلن رئيسها فايز السراج يوم 1/8/2016 أن "المجلس الرئاسي قرر بصفته القائد الأعلى للجيش طلب دعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية لتوجيه ضربات جوية محددة لمعاقل تنظيم داعش في مدينة سرت وضواحيها"، وأضاف "هذه العمليات في هذه المرحلة تأتي في إطار زمني محدد ولن تتجاوز مدينة سرت وضواحيها... وستقتصر على المساعدة الفنية واللوجستية". يقول ذلك ليخدع الناس أن ذلك طارئ لا يتجاوز هذه المرحلة وهذه الفترة، علما أنه فتح الباب للتدخل الأمريكي والغربي وشرّعه، وهذا التدخل سيتوالى، ولذلك كذّبه المتحدث الأمريكي باسم البنتاغون بيتر كوك يوم 2/8/2016 قائلا: "إن الضربات ليس لها نقطة نهاية في هذا التوقيت تحديدا... وإنه سيجري في المستقبل تنسيق كل ضربة منفردة مع حكومة الوفاق وستحتاج إلى موافقة قائد القوات الأمريكية في أفريقيا".
وقال الرئيس الأمريكي أوباما يوم 2/8/2016 "إن دعم معركة الحكومة الليبية ضد تنظيم الدولة الإسلامية يصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي... وإن الضربات الجوية نفذت لضمان أن تتمكن القوات الليبية من إنجاز مهمة قتال الجماعة المتشددة وتعزيز الاستقرار"، وأضاف أن "الولايات المتحدة وأوروبا والعالم لهم مصلحة كبرى في تحقق الاستقرار في ليبيا لأن غياب الاستقرار ساعد في تفاقم بعض التحديات التي شهدناها فيما يتعلق بأزمة المهاجرين في أوروبا وبعض المآسي الإنسانية التي شاهدناها في البحر بين ليبيا وأوروبا". فالرئيس الأمريكي يعتبر ذلك من مصلحة الأمن القومي لبلاده، فمعنى ذلك أنها مسألة مهمة تتعلق بالوجود الأمريكي في ليبيا، ولكنه يدّعي أنه يقوم بذلك ليس لمصلحة بلاده فحسب بل لمصلحة أوروبا والعالم حتى يغطي على أهدافه المتعلقة ببسط النفوذ والاستعمار.
وأما الموقف الأوروبي الرافض للتدخل العسكري فقد رأينا تبدلا فيه، إذ أعرب وزير خارجية فرنسا جان جاك ايرولت عن "ترحيب بلاده بخطوة حكومة الوفاق الليبية طلب المساعدة الدولية المتمثلة في الضربات الجوية الأمريكية وذلك في اتصال هاتفي جرى بينه وبين السراج نشرت تفاصيله وزارة الخارجية الفرنسية" وأعرب الوزير الفرنسي للسراج عن "استعداد بلاده لتعزيز تعاونها مع حكومة الوفاق في جميع الحالات وفي مقدمتها الأمن ومقاومة الإرهاب". وعبر السفير البريطاني لدى ليبيا بيتر ميليت على صفحته على موقع التواصل الإلكتروني "تويتر" عن "ترحيبه بانضمام ليبيا للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة في إشارة إلى الغارات الأمريكية التي شنتها أمريكا على سرت". وقال وزير خارجية إيطاليا باولو جينتيلوني: "إن إيطاليا ترحب بالعمليات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة على بعض الأهداف التابعة لتنظيم الدولة في سرت والتي جاءت بناء على طلب من حكومة الوحدة الوطنية لدعم القوات الموالية للحكومة... وأعرب عن استعداد بلاده لتلبية طلب ليبي بكل أشكال المساعدة بما فيها العسكري". وقالت وزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي إن إيطاليا ستسمح على الأرجح باستخدام قواعدها الجوية ومجالها الجوي لشن ضربات على عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا، إذا طلبت الولايات المتحدة ذلك". علما أن هذه الدول الأوروبية عارضت في السابق التدخل العسكري في ليبيا واستطاعت استصدار قرارات دولية من مجلس الأمن لعرقلة هذا التدخل الذي كانت أمريكا تصر عليه وتخالف تلك القرارات وتقوم بضربات متفرقة.. ومن هنا يمكن أن يفهم الموقف الأوروبي أن أمريكا مصرة على التدخل وتقوم بالفعل بالتدخل، فصار لا بد لها من الموافقة عليه حتى تتدخل هي أي أوروبا ولا تترك أمريكا تفعل ذلك وحدها، وقد رأينا قوات بريطانية وفرنسية تشترك بجانب قوات أمريكية ضمن قوات حفتر. فهي تدخل في باب الصراع بين الطرفين، فإذا تركت أوروبا أمريكا تقوم بشن الغارات وهي معارضة ومعارضتها لا تثني أمريكا فإن أمريكا ستتمادى وتصبح تفعل كما تفعل في سوريا وعندئذ ربما تتمكن أمريكا من فرض واقع جديد يمكّن عملاءها من البلد وتفرضهم على الحكم حيث لم تتمكن من فرضهم حتى الآن فلم تتمكن أمريكا من فرض عميلها حفتر على حكومة الوفاق.
وأما روسيا فانتقدت تلك الضربات، فقال سفيرها لدى ليبيا إيفان مولوتكوف في تصريح لوكالة إنترفاكس يوم 3/8/2016 "إن توجيه ضربات إلى إرهابيين في ليبيا يفتقر للأسس القانونية وأنه أمر يحتاج إلى اتخاذ قرار من مجلس الأمن الدولي" ونقلت الوكالة عن رد لممثل عن وزارة الخارجية الأمريكية رفضه لاتهامات السفير الروسي قائلا بعنجهية: "تستطيع الولايات المتحدة أن تستخدم القوة ضد تنظيم داعش في ليبيا، وذلك بمثابة إجراءات دفاعية ذاتية في إطار النزاع المسلح المستمر مع التنظيم". يظهر أن أمريكا لم تعر روسيا قيمة، لأنها ليست بحاجة لها حاليا لتستخدمها في الشأن الليبي كما تفعل في سوريا، وبذلك تحتج روسيا بأن ذلك يفتقر للأسس القانونية ويحتاج إلى اتخاذ قرار من مجلس الأمن، ولم تقل مثل ذلك، وهي تنفذ الضربات منذ سنة تقريبا في سوريا خدمة لأمريكا وبغضاً للمسلمين بدون أسس قانونية وبدون قرار من مجلس الأمن الدولي!
وأما مجلس نواب طبرق الخاضع لسيطرة حفتر فقد أعلن على لسان لجنته للدفاع والأمن القومي يوم 2/8/2016: "إن استهداف الطيران الأمريكي لداعش سرت يمثل دعما للمجلس الرئاسي الذي لم يتوافق عليه الليبيون ولا زال غير دستوري وغير شرعي... وإن الموقف الأمريكي فيه ازدواجية لمعايير الإرهاب وتسييس للقضية، بدليل عدم مساعدتنا في الحرب على الإرهاب في بنغازي ودرنة مثلا". فيدّعي كذبا أن أمريكا لم تساعده وهي أي أمريكا تتواجد بين قوات حفتر.
يظهر أن حكومة السراج وافقت على ذلك بإيعاز من أوروبا التي وافقت على التدخل الأمريكي، وهي تسعى للحصول على دعم أمريكا لها، وأن تجعل مجلس طبرق يوافق عليها، فتصبح الحكومة الوحيدة الممثلة لليبيا، فتغريها بالسماح لها رسميا بتوجيه هذه الضربات في ظل إصرار أمريكا على التدخل، وهي تتدخل ضمن قوات حفتر حيث اعترف بذلكالعميد صقر الجروشي قائد السلاح الجوي التابع لحفتر يوم 20/7/2016 أن "الفرنسيين الثلاثة جزء من قوات خاصة فرنسية وبريطانية وأمريكية داعمة لقوات حفتر في بنغازي منذ أكثر من عام لمراقبة تحركات تنظيم الدولة". وذلك بعدما اعترفت فرنسا بمقتل ثلاثة من جنودها.ويؤيد ذلك تصريحات عضو المجلس الأعلى للدولة منصور الحصادي يوم 3/8/2016 حيث "اعتبر القصف الأمريكي لمواقع تنظيم الدولة بسرت محاولة لدعم المجلس الرئاسي الليبي في مواجهة التنظيم الذي يهدد الأمن والاستقرار في العالم كله". وقال "ما كنا نتمناه منذ عام 2011 هو أن ينتصر الشعب الليبي بمفرده على القذافي وأن ينتصر على تنظيم الدولة الإسلامية وأن ينتصر على الانقلابيين بقيادة خليفة حفتر وأن يحدث الاستقرار وألا يلجأ أحد إلى أحد وتكون الحلول الأمنية والسياسية والاجتماعية داخلية". أي هو يعلن أنه اضطر إلى الموافقة على تدخل أمريكا، ويقول ذلك في تناقض وهو يعلن قدرة قوات مجلسه الرئاسي بدون أمريكا على القضاء على تنظيم الدولة حيث قال: "إن القضاء على تنظيم الدولة في سرت بواسطة عملية البنيان المرصوص قاب قوسين أو أدنى كما تم القضاء عليه في درنة". فمعنى ذلك أنه ليس بحاجة للقوات الأمريكية ولكنه يريد أن يراضي أمريكا بالسماح لها بالتدخل حتى ينال دعمها ويخفف الضغوطات عليه.
فالطرفان في طرابلس وطبرق يتسابقان على إرضاء أمريكا لينال كل منهما تأييدها حتى تبقيه في منصبه. فحكومة السراج تشكلت بدعم أوروبي وخاصة بريطانيا التي استطاعت أن تعقد اتفاق الصخيرات يوم 17/12/2016 وكانت تعرقل التدخل العسكري في ليبيا لأنها ليست بحاجة إليه بسبب أن الحكومة تابعة لها وأنها تسيطر على الوسط السياسي، واستصدرت قرارات دولية لمنعه، ولكن أمريكا كانت تصر على التدخل وقامت بضربات منفردة كما بينا. لأن الوجود الأمريكي ضعيف في ليبيا فتريد أن تعتمد على التدخل العسكري وقد دعمت عميلها حفتر الذي لم ينل موافقة الحكومة فلم تعينه في أي مركز وهو مكروه شعبيا، حيث الكل يرى عمالته وخساسته.
في المقابل أعلن مجلس البحوث والدراسات الشرعية في دار الإفتاء الليبية يوم 3/8/2016 رفضه للتدخل الأمريكي في ليبيا، فقال "إن طلب التدخل الأجنبي في البلاد أمر مرفوض مستنكر ولا يجوز التهاون والرضا به... وطلبه في هذا الوقت بالذات محاولة لسرقة جهود الثوار وتضحياتهم باهظة الثمن في جبهة سرت واستهانة بالأعداد الكبيرة من دماء الشهداء الأبرار ولإيجاد مبرر يتم من خلاله إنقاذ حفتر في بنغازي ودعم الظلمة والبغاة والانقلابيين ومن يعلنون أنهم لا يريدون شرع الله تحت ذريعة محاربة الإرهاب".
نعم إن التدخل الأجنبي مرفوض شرعا، ويجب على أهل ليبيا المسلمين الأعزاء بدينهم أن يأخذوا على أيدي المسؤولين الذين يطلبون العون من قوى الكفر الظالمة أمريكا وأوروبا لغايات سياسية، وجعلوا ليبيا مستباحة للأعداء، وقد نهى الله بشدة عن موالاتهم والركون إليهم، ووصف من يواليهم بأنه منهم، ومن يركن إليهم فمصيره النار والهزيمة والخذلان، وأوجب التوكل عليه وحده سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
رأيك في الموضوع