إن من الحقائق التي بدت واضحة عبر العصور أن المدنيين لا اعتبار لهم عند المحارب الغربي، بل على العكس تماما فقد أضحى المدنيون ورقة ضغط رابحة في المعارك! ولا فرق في هذا بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وغيرها من باقي دول العالم الغربي ولذا فإن ما نشاهده في بعض مناطق العالم هنا وهناك من قتل وتهجير وإبادة ومجازر ضد المدنيين هو عرف سائد اليوم، وهو مظهر طبيعي لعقلية المحارب الغربي فلا بأس في ارتكاب هكذا جرائم ضد المدنيين إذا كان يمكن تحقيق أهداف ومنافع وغايات منها. ولا فرق في ذلك إذا كانت حروب الدول الغربية ضد شعوب العالم الإسلامي أو إذا كانت بين الدول الغربية نفسها.
ورغم ذلك تستمر صرخات الشعوب في العالم تتعالى مناشِدة الدول الكبرى وهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن للتدخل وإيقاف هذه المجازر والجرائم. ويتناسى المستجيرون بهذه الدول الكبرى وتلك المؤسسات العالمية بأن هذه الدول تعتبر أن الضحايا المدنيين هم نتيجة طبيعية للحروب والنزاعات، ويتناسى آخرون شيئا آخر مهمّاً وهو أن هذه الدول الكبرى هي غالبا من يقف خلف هكذا حروب وأن هذه المؤسسات الدولية ما هي إلا أداة لتنفيذ مخططات الدول الكبرى.
فأمريكا التي ارتكبت الجرائم تلو الجرائم مثل المجازر وجرائم الإبادة ضد الهنود الحمر في أمريكا نفسها، وخارج أمريكا في اليابان والمجازر بحق المدنيين في فيتنام وغيرها من جرائم الأمس، ها هي اليوم ترتكب المجازر في العراق وسوريا واليمن وليبيا وأفغانستان، وربما صارت المجازر التي ترتكبها طياراتها بدون طيار في باكستان حدثا يكاد يكون يوميا هناك؛ مرة في الجوامع والمساجد وأخرى في المدارس... ولقد كثر القتل والإجرام بحق أهل الشام على يد عصابات بشار ومن خلفه أمريكا بقتل المدنيين الآمنين، وليس آخر المجازر ما جرى في منبج، لتقول بعد ذلك إن الأمر حصل عن طريق الخطأ!...
أما بريطانيا والتي امتدت جرائمها ضد المدنيين لتغطي أرجاء المعمورة في الأمس واليوم؛ فمن إعطاء فلسطين لليهود وتهجير أهلها منها ومنح كشمير للهندوس الذين يسومون أهلها سوء العذاب، وجرائم الإنجليز ضد شعب البوير في أفريقيا 1898م مثلا حين قام المندوب البريطاني (كتشنر) بحصر النساء والأطفال في نقاط عسكرية كانوا يموتون فيها من الجوع والبرد والمرض وانتصروا على شعب البوير بسبب وحشيتهم وعنفهم في مواجهة الشعب. وأما عن جرائمهم في أوروبا نفسها فإن أيرلندا وأسكتلندا ما زالتا تتذكران جيدا ما قام به الإنجليز أثناء احتلالهم لهما من بشاعة ضد المدنيين. ومؤخرا في العراق وكل ما حصل ويحصل في العراق اليوم، قرابة المليونين شخص وخمسة ملايين يتيم وملايين النازحين والمهجرين بسبب كذبة أسلحة الدمار الشامل التي "اعتذر" عنها توني بلير للشعب العراقي قبل أشهر بكل بساطة!
أما روسيا فقد كان ستالين في مقولة له يعتبر المدنيين العزل (لحم المدفع)، وفي حربهم ضد ألمانيا قام جنودهم باغتصاب قرابة مليوني امرأة ألمانية حسب بعض الإحصائيات وتم حرق عشرات الآلاف من المدنيين في بيوتهم. أما ستالين اليوم (بوتين) فقد هدم الشيشان على رؤوس الأطفال والشيوخ والنساء في مجزرة تم التكتيم عليها بصورة فظيعة مع أن ضحاياها تجاوزوا عشرات الآلاف. كما أن الطائرات الروسية في سوريا تدك المدنيين يوما بعد يوم بأعتى الصواريخ.
وأما فرنسا صاحبة التاريخ البشع في أفريقيا؛ ففي الأمس القريب في الجزائر وحدها قتلت قرابة المليون ونصف شهيد معظمهم من المدنيين، وقد جاء في تقرير اللجنة الأفريقية عام 1988م إلى الحكومة الفرنسية التي كانت كلفتها بالتحقيق في الجرائم في إحدى المناطق ما يلي: (هذه هي الطريقة في الحرب ضد العرب؛ قتل الرجال وأخذ النساء والأطفال ووضعهم في بواخر ونفيهم إلى جزر المركيز البولينيزية، باختصار: القضاء على كل من يرفض الركوع تحت أقدامنا كالكلاب، لقد أحصينا القتلى من النساء والأطفال فوجدناهم 2300 أما عدد الجرحى فلا يكاد يذكر، السبب بسيط هو أننا لم نكن نترك جرحاهم على قيد الحياة)، يقول الضابط الفرنسي مونتيناك (لقد حطمنا ممتلكات المؤسسات الدينية وجردنا السكان الذين وعدناهم بالاحترام وأخذنا الممتلكات الخاصة بدون تعويض... وذبحنا أناسا كانوا يحملون عهد الأمان... وحكمنا رجالا يتمتعون بسمعة القديسين في بلادهم... لأنهم كانوا شجعان). وأما اليوم فها هي فرنسا تعيث الفساد في ليبيا ومالي وغيرها من دول أفريقيا التي تعاني ويلات الاستعمار الفرنسي وبشاعته.
إن المدنيين ليس لهم أي اعتبار في عرف المحارب أو السياسي الغربي الرأسمالي. هكذا كان وهكذا سيستمر الأمر لا فرق في حروبهم ضد المسلمين أو في حروبهم فيما بينهم. فالمنافع المادية هي الأهم وهي الأساس في العقيدة الرأسمالية التي تحكم العالم اليوم.
ومنذ غياب دولة الإسلام عن الوجود عام 1924م ازداد انتهاك حرمة المدنيين. أما في دولة الخلافة فللحرب أخلاق وللمدنيين حرمة يجب الحفاظ عليها ومعاقبة من يتعدى عليها لا سيما إذا كان هذا المدني شيخا أو طفلا أو امرأة، وحتى الأسير يحظى بمعاملة كريمة في دولة الخلافة. قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ وكان أبو بكر رضي الله عنه يوصي قادة جنده حال ذهابهم للقتال: (لا تخونوا ولا تغدروا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة...).
بقلم د. فرج ممدوح
رأيك في الموضوع