عاد لبنان إلى واجهة الأحداث مجددا في الأسابيع القليلة الماضية، فبعد حالة الجمود السياسي في ملف اختيار الرئيس، عادت الحياة مرة أخرى للحراك السياسي في لبنان، وذلك على وقع النتائج غير المتوقعة للانتخابات البلدية في طرابلس، فقد مني التحالف الانتخابي الذي ضم الحريري والصفدي وميقاتي وكرامي والجماعة الإسلامية بخسارة كبيرة في نتائج الانتخابات البلدية لصالح اللائحة التي دعمها الوزير المستقيل أشرف ريفي، فكانت صفعة طرابلسية مؤلمة في وجه تيار الزعامة التقليدية، التي كانت تعتبر أصوات الناخبين أمرا مضمونا، ومحسوما سلفا على حد قول نجيب ميقاتي لابنته "الموضوع مش محرز، والنتيجة محسومة سلفاً لصالحنا"، وكيف لا يقول ذلك ميقاتي ولائحتهم الانتخابية ضمت كافة الزعامات المتصارعة، والتي تتقاسم طرابلس فيما بينها، إلا أنّ الحالة التي أوصل لها هؤلاء السياسيون المسلمين في لبنان جعلتهم ينفضون أيديهم من كل تلك الزعامات دفعة واحدة، فقد انعدم الأفق السياسي، وأظلم، ولم تعد الوعود والأماني الكاذبة تجدي نفعا، وانكشف للناس نوعا ما دجل هذه الزعامات وكذبها، وساهم في هذا تقلب التحالفات وتداخلها وتناقضها، (الحريري يتحالف مع عون في بيروت، ويتحالف مع ميقاتي وكرامي في طرابلس) حتى غدا المشهد السياسي في لبنان أقرب (للولدنة) منه للسياسة، لذلك كان الإحجام في طرابلس عن الانتخابات البلدية أمرا ملحوظا، فلم تزد نسبة الاقتراع عن 27%، ومن انتخب يبدو أنه إنما انتخب ليعاقب أولئك الزعماء!، كما أنها في بيروت لم تزد عن 20%، فكان فوز لائحة الحريري في بيروت أقرب للخسارة!
أما عن تفسير تلك التقلبات والاصطفافات، فالظاهر أن جزءًا من هذه التقلبات في الأوساط السياسية والمواقف المقصود منها إبقاء الحراك السياسي في لبنان فاعلا، وذلك لأن أمريكا وقد اجتمعت لها خيوط الهيمنة على لبنان، وأحكمت قبضتها عليه، ليست في وارد حسم الملف السياسي في لبنان قبل ترتيب الوضع في سوريا، ويتضح هذا من تلاعب أمريكا بملف الرئاسة وتركه غير محسوم بالرغم من أن أمر الحسم بيد عملائها بلا منافس، وهذا التجميد للملف الرئاسي يفضي إلى تجمد الحياة السياسية في لبنان، وقد يدفع الناس إلى التحرك الذاتي، لذلك كان إيجاد حراك سياسي بين فترة وأخرى وتحريك الأحداث في لبنان يساهم في التنفيس من حدة الاحتقان الداخلي ويشغل الناس بمعارك جانبية، وقضايا جزئية.
كما أن تيار المستقبل المدعوم من السعودية يمر بمرحلة انتقالية نتيجة تغير الوسط الحاكم في السعودية، فبعد زوال عملاء بريطانيا من سدة الحكم في السعودية، ومقدم عملاء أمريكا بقوة إلى الحكم، أصبحت السعودية رأس حربة في تنفيذ وحماية المصالح الأمريكية في المنطقة، واقتسمت هذا الدور مع إيران، وهذا الانعطاف في السياسة السعودية أثّر على تيار المستقبل، وبدأ يظهر على التيار الضعف والتراجع نتيجة أن الشعبية التي كان يملكها مبنية على خط سياسي مختلف، والمواقف الجديدة تتناقض مع مواقفه السابقة تناقضا تاما. وقد أدى هذا لخسارة التيار عددا كبيرا من مناصريه.
وقد أوجدت هذه الحالة الفرصة المناسبة للواء أشرف ريفي ليتقدم، فبدأ بمعارضة مواقف الحريري السياسية التي تتعارض مع خطه الأول، فجاء في استقالته من الحكومة "من موقعي كوزير في هذه الحكومة، عاينت ما يعجز اللسان عن وصفه. واليوم أصارح اللبنانيين بأن ما وصلت إليه الأمور جراء ممارسات دويلة حزب الله وحلفائه لم يعد مقبولاً، والاستمرار في هذه الحكومة يصبح موافقة على هذا الانحراف، أو على الأقل عجزاً عن مواجهته، وفي الحالتين الأمر مرفوض بالنسبة لي" وقال أيضا "أنا على عهد شهيد لبنان الرئيس رفيق الحريري وشهداء ثورة الأرز، باق، في مواجهة الدويلة، والاستمرار معكم أيها اللبنانيون الشرفاء في معركة إنقاذ لبنان، وأنا على ثقة بأن لبنان الدولة سينتصر بكم ولكم، مهما كثرت الصعاب" (الأخبار، العدد ٢٨١٨، ٢٠/2/٢٠١٦)، وفي لقاء تلفزيوني (أكد وزير العدل المستقيل اللواء أشرف ريفي، في حديث تلفزيوني أنه لن يعود عن استقالته من الحكومة، وأعلن "أن تبني الرئيس سعد الحريري للنائب سليمان فرنجية أمر خاطئ استراتيجيا وسيسبب الخسارة لتيار المستقبل"، معتبرا أن "لا فرنجية ولا النائب ميشال عون سيصلان للرئاسة" وأكد أنه "حالة مستقلة من مدرسة الشهيد رفيق الحريري وألتقي مع تيار المستقبل في الكثير من النقاط لكن مع استقلالية كاملة وسأبقى سيد قراري دائما. فلا أطيع بشكل أعمى، لكن أقتنع فأسير وإن لم أقتنع لا أسير".) (الديار 15/4/2016)، وعلى الرغم من مغازلته السعودية في تصريحاته إلا أنها مغازلة في سياق الحديث عن الوقوف في وجه إيران وحزبها في لبنان، وواضح أن أشرف ريفي يمثل الخط السياسي الذي كان يسير عليه تيار المستقبل في زمن عبد الله بن عبد العزيز، وقد ظهر هذا الانقسام بين الزمانين جليا في التيار عند حديث وزير الداخلية نهاد المشنوق في برنامج كلام الناس في 2/6/2016 وانتقاده للدور السعودي زمن حكم عبد الله بن عبد العزيز، حيث أنحى باللائمة على السياسة السعودية السابقة وأنها هي التي أدت بتيار المستقبل إلى ما وصل إليه الآن... (قناة LBC 2/6/2016).
لذلك فالتقلبات والاصطفافات في لبنان محكومة بالتغيرات التي طرأت على الحاضنة الإقليمية لتيار المستقبل، وهي أيضا محكومة بإرجاء أمريكا البت في الملف الرئاسي لحين ترتيب الوضع في سوريا، ويظهر أن ترتيب الأمور في سوريا لا يتقدم بشكل متسارع فأمريكا تحث الخطا وتضغط باتجاه الحل والترتيب والتهدئة، ثم تعود وتسير باتجاه القتل والتدمير والتصعيد، وهذا يعني أن لبنان سيبقى على الهامش إلى إشعار آخر، فإما أن تحسم أمريكا أمرها في سوريا أو تحسم الأمة الإسلامية أمرها وتقطع دابر أمريكا والغرب وأذنابهم!
رأيك في الموضوع